الشكر والامتنان، لطالب الدكتوراه عباس غازي البطاط، لاختياره مقالتي (حديث التزوير) المنشورة في جريدة طريق الشعب اليومية في العمود الأسبوعي (كل خميس) على الصفحة الثانية في العدد المرقم ١٩٨ ليوم الخميس ٣١ أيار ٢٠١٨)، كأحد المقالات العشر لموضوع أطروحته للدكتوراه، (التداولية في خطاب الصحافة العراقية، دراسة تحليلية للمقال الصحفي في الجرائد العراقية، طريق الشعب، المدى، الصباح، للمدة من ١/٤ ولغاية ٣٠/٦/٢٠١٨)، والتي تم قبولها وأجيزت، بعد مناقشتها من قبل لجنة علمية في كلية الاعلام/ جامعة بغداد يوم ١٥/١١/٢٠٢٠، وحصل الباحث عليها درجة الدكتوراه وبامتياز، والشكر موصول للأستاذين المشرفين الدكتور المُجد نبيل جاسم محمد و الدكتور القدير محمد رضا مبارك.

في الوقت الذي أضفى فيه اختيار المقالة على قلبي السعادة والانشراح، جعل فكري هائما بعدد من التداعيات المقلقة، منها أن الكتابة ليس فعل هباء، بل هي مسؤولية تبدأ من حيث اختيار الفكرة مرورا بكتابة المادة ولا تنتهي عند نشرها، بل تمتد الى نهايات مفتوحة مادامت وظيفتها التأثير على الرأي العام، ومن هنا يأتي احترام الكلمة وحسن صياغتها، وإعطاء الفكرة حقها الكامل والايفاء بها، كونها في نهاية المطاف تحمل رسالة الإسهام في بناء الثقافة السياسية وتشكيل الوعي الوطني الديمقراطي.

وضع هذه المقالة ضمن المقالات قيد البحث والدراسة، ستضعها في مواجهة غير اعتيادية، أمام مبضع نقد أساتذة مختصين بمناهج وأقسام الإعلام ونظرياته، وبهذا سيكون كاتبها أمام امتحان من نوع آخر، امتحان لم يستعد له ولم يكن له رأي باختيار شكله ونوعه. امتحان لا مجال به للإجابة والتوضيح، هو أقرب الى انتظار نطق الحكم. حكم الأساتذة المعروفين بكفاءتهم العلمية ووضوح آرائهم ودقة ملاحظاتهم وإنصافهم للجهد وتقديرهم للبحوث العلمية.  قد يبدو امتحانا للباحث وحده، وليس كاتب المقالة من يجلس امام اللجنة ويدافع عن جهده، الباحث هو الذي سيدافع عن فرضية البحث وما توصل اليه من خلال عرضه للمادة وتحليلها تحليلا علميا، لكنه في نفس الوقت امتحان أيضا لكاتب المقالة. هو امتحان سيضعني مرة أخرى أمام لجنة المناقشة التي ستقول كلمتها، وعلي فقط الصمت والاستماع دون ان أنبس بكلمة، هو إذاً امتحان عسير، حيث المواجهة غير القابلة للتأجيل امام العلم بصرامته، وغير قابل للمساومة التي يفرضها منطق السياسية وغاياتها.

أعتقد لم يكن اختيار المقالات عشوائيا. نظريا يتم ذلك بعد قراءة مقالات وأعمدة قد تتجاوز المئات، كي يتم تحديد مادة الدراسة، وجاء اختيار مقالتي السياسية (حديث التزوير)، التي تقع ضمن سياقات الثقافة السياسية المعارضة، وهي خارج سياقات خطاب السلطة وكتابها.

 إن البحث العلمي لا يخضع للمزاج السياسي، بل يجعل من المواقف السياسية خاضعة لمبضعه الحاد، هو إذاً انتصار للباحث الجاد، وهو رصيد إيجابي يسجل للبحث العلمي، الذي يبدو أنه بدأ بالتعافي من هيمنة السلطة السياسية، وتحرر من نفوذ السياسيين، وانطلق حرا نازعا عنه القيود التي تعيق نظرياته ومناهجه العلمية.

 كما ويؤكد أن جامعات العراق ومراكزه البحثية حسمت أمر انحيازها لمنطق العلم وصرامته، ولا تراعي أي اشتراطات غير قواعد العلم وشروطه.

 رغم الظروف القاهرة التي تمر على العراق، وإشكاليات الأزمة العامة وانعكاسها على مجمل الأوضاع، ومنها على التعليم، وحصة أوجاع التعليم العالي منها.

تحق لنا بهجة الاحتفاء باستقلالية البحث العلمي الذي حوصر عقودا، سيما وأن المقالة موضع البحث، هي مقالة واضحة في معارضتها لطغمة الحكم المتنفذة، وتعارضها الشديد مع خطاب السلطة.

الاستقلالية العملية، في هذا الظرف الملتبس، يحسب لكلية الإعلام وعمادتها، وللجنة العلمية فيها المسؤولة عن إقرار العنوان، وموافقتها على خطة الاطروحة ومباحثها.  أتت جرأة الباحث واقدامه على الاختيار والخوض في هذا الميدان الشائك والمعقد، بمثابة مغامرة، لكنه محظوظ   بمشرفه وهو دكتور مختص وقدير وجاد، واتوقع انه خفف على الباحث وطئه المشكلة، حيث حسب نتائجها بدقة، إذ ستكون النتيجة في نهاية المطاف لصالح العلم ولفتح آفاق المعرفة، وترسيخ المنهج العملي البحثي، دون أي اعتبار للحساسيات السياسية، وهذا ما سيعيد لجامعاتنا، مواقعها التي تستحقها في أولويات التصنيف العلمي، الذي شهد تراجعا مؤلما خلال السنوات الفائتة.

المنصف يرى أن مجرد المغامرة في اختيار موضوع معارض للمزاج السائد هو بحد ذاته امتياز. أنه سعي مشكور، لتكريس الحد الفاصل مع ما ساد في فترات النظام الدكتاتوري من تطبيل وتزمير للخطاب السياسي للنظام الدكتاتوري، وترويج دعائي رخيص، أجبر الباحثون عليها تحت ضغط السلطة وإرهابها، وإخضاع كل شيء لها، كي تواصل ماكنة حربها لتحصد الأرواح وتلحق بالشعب الخسائر، عبر سياسات هوجاء تركز هدفها بتمجيد رأس النظام وتعظيم دور حزبه وشرح فكره الديماغوجي. والانتقال المطلوب نحو بحوث علمية جادة لا تلتزم بأي خطوط سوى افضليات البحث العلمي.

يكتشف من يطلع على موضوع الاطروحة، جرأة الباحث باختيار نوع المقالات موضوع البحث، وهي بالإضافة الى مقالة (حديث التزوير) المشار اليها سلفا، (فرصة للتغيير يتوجب ان لا تضيع) المنشورة للكاتب محمد عبد الرحمن المنشورة في طريق الشعب يوم ١٥/٤/٢٠١٨،  و (ما اشبه اليوم بالبارحة) للكاتب مرتضى عبد الحميد المنشورة في طريق الشعب يوم ١٢/٦/٢٠١٨، و(تسميم النبع) للكاتب ساطع راجي المنشورة في المدى يوم ٤/٤/٢٠١٨، و(فرصة للعراقيين لاسترجاع العراق) للكاتب غسان شربل المنشورة في المدى يوم ١٥/٥، ( ما الذي يترقبه العراق من تطورات بعد الانتخابات) للباحث الدكتور حارث حسن المنشورة بالمدى يوم ٢٢/٥/٢٠١٨، و ( انتخابات العراق هل هي نقطة تحول للأمام نحو الديمقراطية؟) للأكاديمي الأمريكي ايريك ديفس المنشورة في المدى يوم ١٢/٦/٢٠١٨، و (الانتخابات في الشورجة) للكاتب خضير فليح المنشورة في الصباح يوم ١/٤/٢٠١٨، و(الانتخابات النيابية العراقية بين الواقع والتطلع والمخاوف الجيوسياسية) للدكتور لقمان فيلي المنشورة في الصباح يوم ١٤/٤/٢٠١٨، و(الانتخابات نتائج وملاحظات) للكاتب عبد الزهرة محمد الهنداوي المنشورة في الصباح يوم ١٦/٥/٢٠١٨.

 اعتمد الباحث منهجا علميا غير مألوف في الدراسات الأكاديمية الإنسانية في كلية الاعلام، حيث استخدم في بحثه النظرية التداولية، ونظرية أفعال الكلام، الى جانب المنهج الكيفي. فقد رصد مقاصد الكاتب، انطلاقا من السياق العام للمقالة، واعتمادا على النظرية التداولية ودراسته لآثار المواقف في نص المقالة والمعطيات التي وفرتها، وما كشفت عن مواقف موجهة للرأي العام بهدف إعادة تشكيله. كما ولا بد من الإشارة الى محاولة الباحث في تحديد الأفعال الكلامية وتمييزه بين الافعال المباشرة وغير المباشرة، وقدرته على إظهار تحولات الأقوال في سياق النص إلى أفعال ذات امتداد اجتماعي تغييري.

 كما لابد من التوقف عند استخدام الباحث للمنهج الكيفي، وسجل في ذلك مبادرة، إذ أن السائد في دراسة الإعلام سواء في البلدان العربية أو في العراق تحديدا، اعتماده على  المنهج الكمي، حيث يرى الكثير من الباحثين انه منهج يتسم بالمصداقية، يساعد في دراسة الظواهر الإعلامية، لكن الملاحظة على هذا المنهج، أنه منهج لا يصلح دائما في الوصول الى نتائج ذات مصداقية، خاصة عند دراسة ظواهر الصراع الاجتماعي، فأدوات القياس التي يعتمدها، قد تكون غير محايدة، خاصة عند رصد القصدية بوضوح في تصميم بعض استبيانات استطلاع الرأي، و اعتماد تقنيات غير محايدة، لا تنجح في أحيان كثيرة في فهم  الظواهر الاجتماعية، وقد تعكس في بعض الحالات واقعا غير موجود في الحياة اليومية. كما ويستغل المنهج الكيفي خاصة للتعرف على المنافسة بين وسائل الاعلام من ناحية أعداد المشاهدين والمتابعين لتلك الوسائل بهدف الحصول على الإعلانات، دون الاهتمام بالجودة، وهكذا أصبح الاهتمام بالكم دون المضمون. وهناك من يعتمده وذلك لسهولة القياس حيث لا يتطلب غير برنامج إحصاء الكتروني.

إن من أسباب اعتماد المنهج الكمي على حساب المنهج الكيفي، لعدم تمكن أدواته في عمق الرسالة الإعلامية وبعدها الاجتماعي، وهذا ما تسعى اليه الطغمة الحاكمة، فهي غير معنية بالوعي الوطني الديمقراطي. اهتمامها ينصب فقط على الدعاية السياسية التي لها ميدان آخر غير ميدان البحث النوعي الجاد، فمصلحة طغمة الحكم الانتخابية لا يعنيها الشعب شيئا، سوى استغلاله كناخب، وينصب فعلها في هذه الحالة على التحشيد الشعبوي. ومن هنا حينما إخطار الباحث المنهج الكيفي وصعوبة متطلبات كالمعلومات الواسعة، والتدقيق المطلوب، والتحليل العميق، وإظهار التأثيرات على مختلف الصد السياسية والاجتماعية، ان هذا الاختيار يتطلب جدية وصرامة وتعبا إضافيا، وبهذا سجل الباحث الريادة، مع انه لم يعترض على المنهج الكيفي، ولم يقلل من أهميته، فللمنهج الكمي مجاله، الذي يمكن الاستفادة منه في مجالات عديدة، وجاء تبنيه للمنهج الكيفي، كمبادرة وإقدام ومغامرة بهدف إضافة الجديد، وما قد يوفره من إمكانيات للتعرف بشكل أعمق على الصراع السياسي الاجتماعي وما ينتج عنه من إشكاليات وهواجس معرفية نوعية تتطلب تطوير أدوات البحث ومواكبة المنهج العملية وكل ابتكاراتها.

تتعاظم أهمية الإعلام في العراق في عكس الصراع الاجتماعي يوما بعد آخر، والباحث الجاد هو الذي يسعى الى فهم الصراع المعقد والمتشابك والخطير في آن. إذ أن الصراع القائم في المجتمع، الذي وصل حد احتجاج الشعب على طغمة حكم وانتفاضه عليها، بهدف التغيير، ما تطلب دراسات علمية للظواهر الاجتماعية والسلوك الاجتماعي وردود الأفعال الإنسانية.

فقد حلل الباحث المقالة مجال الدرس، انطلاقا من تركيزه على المعاني، عارضا المشكلة التي حذر الكاتب منها. نجح الباحث في اقترابه من وصف المشكلة التي عالجها النص، باعتبارها تمس العدالة في تمثيل الشعب، والنزاهة في إدارتها، وإشكالية القبول بنتائجها، جاء التحليل لتحقيق الفهم ثم التركيز على الرسالة، تاركا الأسئلة مفتوحة امام القارئ، لا نهاية لها، انكب على فهم الظاهرة في ظروفها التي تمت فيها، والكشف عن علاقات المتنفذين فيما بينهم كطغمة حكم تقاسمت السلطة، وتصارعت من أجل إعادة اقتسامها بهدف التمترس بها.

تمكن الباحث من قراءة المعنى الظاهري للمقالة وما مستبطن منها ايضا، كما أشر على هدفها وتحذيراتها المسبقة من حرف إرادة الناخب وأعمال التزوير والتزييف التي رافقت جميع الانتخابات التي جرت.

برهنت الوقائع على صحة التوقعات التي جاءت بها المقالة، سيما وكاتبها ليس طرفا بعيدا عن ما جرى، فقد حضر الاجتماعات وشارك كناشط سياسي له وجهات نظر بالشأن السياسي العام، وله تصوره عن لانتخابات، هو مساهم جدي في اجتماعات القوى السياسية مع الأمم المتحدة، وأكد في وقت مبكر ملاحظاته التي هي عصارة تجربة استخلصها من جميع الانتخابات التي مرت على البلد وما شابها من تزوير وحرف إرادة الناخب.

اتضح لاحقا، وكما هو مجرى الاحداث، أنهم اتفقوا على نوع من المحاصصة تضمن وجودهم بالسلطة، بعيدا عن شروط نزاهة الانتخابات وشفافيتها، قبل اجراء الانتخابات، لكن ما أن أعلنت النتائج وتفاجؤوا بأوزانهم فيها، تصاعد حديثهم عن عدم نزاهتها، والتزوير الذي رافقها.

جميع الانتخابات التي جرت وكأنها صورية، حتى تبين هدف المتنفذين من إجرائها، إضفاء شرعيتهم بالسلطة، حيث وصل المواطنون الى قناعة مفادها عدم وجود إمكانية ولضمان تمثيل النزيهين المخلصين، مع عدم جدوى المشاركة في الانتخابات المحسومة نتائجها سلفا لصالح قوى المحاصصة والفساد. وهكذا جعلوا الانتخابات أقرب الى مسرحية هزيلة معلومة النتائج، لا مفاضلة فيها بين قوائم المتنفذين، بين زيد منهم وعبيد، لهذا السبب الى جانب المحاصصة والفساد وتدهور الوضع المعيشي، فضلا عن أسباب أخرى، انطلقت انتفاضة تشرين الباسلة، وقدمت تضحيات جساما، وركزت من جديد على إجراء انتخابات مبكرة، وجعلوا من هذا المطلب في أولوية مطالبهم، لكن وكما اتضح أن المتنفذين ما زالوا بعيدين عن الفهم الصحيح لجوهر مطلب الانتفاضة بإجراء الانتخابات المبكرة، رغم إنه مطلب واضح لا لبس فيه. بطبيعة الحال جاء مطلب الانتخابات المبكرة، بعد كفاح شعبي طويل، استعملت فيه كل وسائل الضغط والمدافعة والتواصل، واشتدت على صفحاته معارك فكرية وسياسية كانت عناوينها المواطنة بدلا عن الطائفية، والنزاهة مقابل الفساد، وتنويع الاقتصاد بدلا عن اعتماد الريع، والعدالة الاجتماعية سبيلا لردم الفجوة الطبقية الواسعة، الى جانب الحق بالعيش الآمن في وطن يوفر الخدمات.

وقد رصدت المقالة، سلوك المتنفذين وخذلانهم للناس حيث قالت: (انهم لا يعيرون اهتماما لمعاناتهم. لقد كان همهم وما زال استغلال كل شيء من مواقعهم في السلطة خدمة لأغراضهم الشخصية النفعية، والتصرف على هواهم في ثروات العراق، والاستحواذ على المال العام.)

واستنتجت المقالة استنتاجا جاء في نهايتها اذ نص على (أن ابتعاد الناس عنهم هو سبب خسارتهم الحقيقي. لكنهم تداولوا في كل ما يتعلق بخسارتهم، باستثناء العقوبة التي انزلها الناس بهم، ومعناها ومغزاها!).

عرض مقالات: