تم تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين لشهر آيار وسلمت من الإستقطاع، حسب بيان المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء، الصادر يوم ١٩آيار. وإذا كان هذا الخبر قد بعث الطمأنينة، ولو مؤقتا، في نفوس من ينتظرون إستلام رواتبهم كاملة، خاصة من محدودي الدخل ومن لا مورد غيره عندهم لتدبير معيشة عوائلهم ومتطلباتها، فأن القلق يبقى يقض مضاجعهم على رواتب الشهور القادمة.
وحين نتابع فقرات البيان الأخرى، التي تعرض لقرارات الجلسة الإعتيادية الثالثة لمجلس الوزراء، لا سيما المتعلقة بالجانب الاقتصادي، نجد أن رواتب الأشهر اللاحقة، أي حزيران وما بعده، لا تزال غير مؤمنة، الامر الذي يستلزم "إتخاذ الإجراءات الكفيلة بالسماح لوزارة المالية بالإقتراض لتغطية العجز المالي الناجم عن انخفاض أسعار النفط"، كما نص البيان.
والذهاب ألى الإقتراض الداخلي ممكن طبعا في ظل هذه الأزمة، لكن الخطورة تكمن في الإقتراض الخارجي، لأن القروض المستحصلة من الخارج سترافقها شروط. وإذْ لا مجال هنا لإستعراض شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فتبقى الإشارة الى آثار وصفتيهما على الدول التي اضطرت إلى طلب المعونة أو الإقتراض منهما، وهما المؤسستان اللتان تعدان من أذرع المنهج النيوليبرالي، وسعيه إلى الهمينة على مقدرات الشعوب وإجبار الأنظمة على إتباع نظام اقتصادي استهلاكي تابع. مثلما أن الدول التي تمنح القروض تنطلق أساسا من مصالحها، فهي في نهاية المطاف ليست منظمات خيرية!
أما بشأن الخطوات العاجلة التي تؤمن الإحتياجات الضرورية، كالرواتب والخدمات، فطريقها سهل جداً، لكنه يحتاج الى جرأة في القرار وشجاعة وحزم في التنفيذ، وهو يبدأ بحجز أموال طغمة الفساد وأملاكها وأطيانها وبنوكها وفضائياتها، والمباشرة بإستجوابهم إستنادا إلى القانون الذي سبق أن صوت عليه البرلمان (قانون من أين لك هذا؟). وهناك قضايا ملموسة يمكن البدء بها فورا، ونعني تدقيق جميع العقود والعطاءات وكذلك الموازنات المالية السابقة وحساباتها الختامية!
أما الحل الجذري فيكمن في أعتماد رؤية اقتصادية جديدة تشجع وتحمي الصناعة الوطنية والزراعة، وفي وضع ضوابط واضحة لدعم المنتوج الوطني، وعدم السماح بتدفق السلع التي ينتج مثيل لها في العراق، وإتباع نهج التنمية المستدامة، وبعكسه تبقى البلاد في لجة الازمات الاقتصادية والمالية المتفاقمة. هذا السبيل السليم لا يمكن ان يتنفس في ظل الفساد، الذي لا بد من التصدي له بخطوات ملموسة وحقيقية وحلول شاملة.
وما يؤسف له أن الاجراءات المتخذة في إطار هذه الوجهة، ما زالت تصطدم ببيروقراطية الدولة والفساد المتفشي فيها. فقرارات منع إستيراد السلع التي تم تحديدها لم تطبق، والبضائع المحظور إستيرادها لا تزال تتدفق على الأسواق. وهكذا لم يبق الفساد شيئا من الإجراءات المذكورة. فالرشوة هي سيدة الموقف، و"بقدرتها" تُرفع الموانع، ويُضاء اللون الأخضر للسماح بمرور أية سلعة، مهما جرى تأكيد عدم حاجة السوق العراقية اليها، وبمنتهى السهولة!
وما يزيد من خيبة الأمل تغوّل قدرات طغمة الفساد، التي وصلت الى بعض المستشارين والاقتصاديين، الذين عادوا بنغمة توقع إرتفاع أسعار النفط، والغاية من ذلك هي إضعاف التوجه نحو بناء اقتصاد حقيقي يعتمد الصناعة والزراعة، والإبقاء بدلا من هذا على الإقتصاد الريعي، كي يبقى العراق ذا منهج إقتصادي تابع، تترسخ فيه نزعة الإستهلاك وليس الإنتاج.