هناك علاقة جدلية بين المكان  والانسان،  من الذي يؤثر على الآخر ولمن الأولوية في ذلك؟ أرض بدون بشر لا تعني شيئا،  يأخذ المكان شهرته من إستيطان البشر له، الإنسان  والطبيعة  يصنعان الرأسمال  والقيم المادية كما أكدت على ذلك جميع المدارس الاقتصادية، الرأسمالية والاشتراكية بجميع أنواعها وإتجاهاتها، يذكًرني هذه الكتاب بخماسية عبد الرحمن منيف – مدن الملح، ولهذا فان كافة التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية لابد وأن يكون لها مكان معين  لتولد وتنشأ عليه، وإنطلاقا من هذا المفهوم لابد وأن يكون للمكان أناسه اللذين يبنون عليه حضارتهم وعمرانهم وحواضرهم.

من هذا المفهوم الجدلي  ولدت الغازية وسويج دجة،  والجلعة (قلعة سكر بعد ثورة تموز1958)  وسويج شجر (الفجر) ، والرفاعي والشطرة والدواية ،والعكيكة وكرمة بني سعيد  وسوق الشيوخ....الخ.  أسماء أمكنة غريبة سمعتها وأنا يافع ، حينما كان والدي يحدثنا عن ذكريات عمله في  ديوان عشائر لواء المنتفك (لواء الناصرية في العهد الجمهوري ومن ثم محافظة ذي قار في العام 1969) ، خلال فترة زمنية إمتدت  لأكثر من  الخمسة والثلاثين عاماً، إنتهت بتقاعد في العام 1956.

ولد جمال العتابي- مؤلف هذا الكتاب في  الغازية ( تغيّر إسمها الى النصر بعد ثورة تموز 1958) ، وترعرع فيها، وفي مدن أخرى تقع على نهر الغراف مثل الدواية ، والرفاعي والشطرة وغيرها من مدن  وحواضر أثّرت فيه ، وإستحوذت على جزء لا يستهان به من ذاكرته ، قبل أن ينتقل للعيش في مدينة السماوة،بعد أن أبعدت سلطة قاسم والده المعلم إليها لأسباب سياسية، ومن ثم مدينة الحرية التي تقع في إحدى ضواحي العاصمة بغداد والتي لعبت دورا كبيرا في تكوين شخصيته من جوانب كثيرة: ثقافية واجتماعية وسياسية  وفكرية  ابتداءً من الفترة الزمنية التي كان فيها تلميذاً في متوسطة الفجر في مدينة الكاظمية، على يد مجموعة من المدرسين  كان  مظفر النواب أولهم وبعدها طالباً جامعياً  في كلية التربية  بجامعة  بغداد، التي صقلت أفكاره وطريقة تفكيره، وكذلك وعي وإدراك العالم الذي يحيط به بتأثير أساتذته، اللذين كانوا على مستوى عالٍ من العلم والبحث الأكاديمي، والدراية بطرق ايصال المعلومات الى أذهان الطلبة ، وفي مقدمتهم الدكتور جواد علي، هذا فضلاً عن الأجواء الاجتماعية والسياسية، والشخصيات التي تركت أثراً على مناخ مدينة الحرية.

هناك  العديد من الشخصيات التي كان لها دور بارز في إشاعة مناخ ثقافي متميز في مدينة الحرية ، من خلال لقاءات المقاهي وأمسيات الحوار، والتسابق في قراءة الكتب، بين ثلة الأصدقاء، بالاضافة الى النشاط المسرحي  والكتابة في الصحف والمجلات الدورية البارزة في العراق،  وكشفت الأضواء عن عدد من الكتاب والأدباء والفنانين في هذا الحي الكبير بساكنيه . لقد احتلت مدينة الحرية مساحة قدرها 48 صفحة ، أي  مايقارب 27 بالمائة من الكتاب ،الذي عدد صفحاته 176 صفحة، لم يحصل هذا إعتباطاً وإنما وفاءً للمكان وللأشخاص، اللذين عاصروه ، وللعلاقة الروحية التي ربطته بهم مع واقع  ملموس عاشه وخبره بنفسه.

توقف جمال العتابي في محطات حياتية كثيرة أثّرت عليه  وأغنت  تجربته الإجتماعية  والفكرية  والعملية، سواء كان بالعمل المشترك في مجلتي المجلة ،والمزمار المخصصة للأطفال في سبعينيات القرن الماضي، أم في أماكن عمل أخرى. هناك الكثير من الشخوص اللذين عاصرهم وزاملهم ، منهم  من  لايزال على قيد الحياة ومنهم من رحل الى العالم الآخر، يتذكرهم  ويكتب عنهم بشغف ووفاء  لهم ولصداقتهم الثرية.  منهم من هاجر طوعاً أو مضطراً الى مغادرة الوطن ،  من أجل الحصول على اقامة في  بلد يلجأ اليه  في أرجاء المعمورة الواسعة،  ويعيش فيه بأمان وسلام ومنهم من أغتيل على أيدي مجرمين عتاة ،ومنهم من استشهد تحت التعذيب  ومنهم أخيه الشهيد سامي، الفنان والصحفي، الذي ترك  أثراً موجعاً في نفسه، ونفس الأهل بالدرجة الأولى.

تذكار جميل  ومحزن يؤثر في  روحية القارئ لعدد كبير من الأصدقاء والأقارب المنتشرين في  جميع أنحاء العراق.  أعرف قسماً منهم أثناء دراستي  في جامعة بغداد في  أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، مثل الشاعر حميد الخاقاني  الذي كان يحرز المرتبة الأولى أو الثانية بعد شوقي عبد الأمير في مهرجان كلية التربية السنوي، الذي يعقد عادة في ربيع الفصل الدراسي، والكاتب رياض عيسى رمزي غيدان ، الذي عرف بـ (رياض رمزي) فيما بعد .

لقد ترك  حسن العتابي أثراً كبيراً في نفس ولده جمال ،من حيث التربية والمهنية والصلابة ، والفكر المتّقد الواعي ، على الرغم من أن  الوالد أكمل دار المعلمين الريفية في بغداد في أربعينيات القرن الماضي:”التي كانت معهداً فريداً لإعداد معلمين متسلحين بمهارات تربوية وعلمية ومهنية وفنية ورياضية متقدمة على عصرها آنذاك، بسبب نظامها التربوي المتطور وبرامجها الدراسية الرصينة  التي استعارت خبرات وتجارب الأمم المتحضرة ، فعملت بها فضلا عن كادرها التدريسي الذي درس وتعلم في جامعات عربية وأجنبية”ص36. 

لاأريد أن أكرر أسماء أصدقاء الكاتب أو الأشخاص اللذين عاصرهم، حتى لا يتسلل الملل لدى القارئ، فمن الواضح أنهم تركوا أثراً كبيراً في نفسه، ولكن أريد أن أتوقف عند ذكر العم عبد جياد أبو ليلى الذي إعتاد جمال على وضع وردة حمراء على صورته في ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي في كل سنة على الرغم من تركه للتنظيم منذ زمن بعيد، “ها نحن ياعم نقتفي أثرك ، اسمح لنا أن نضع وردة حمراء فوق صورتك التي لا تزال معلقة في قلوبنا في ذكرى ميلاد حزبك، ها أني أراك في عيون الفراشات، تمنح تلامذتك في الدواية حبّات التمر لأنهم يتضورون جوعا في الدرس. وفي كل عيد تلبس أجسادهم النحيلة دشاديش جديدة تقتطع أثمانها من راتبك الفقير جدا، ها أنا أكتب اليك وفاءً يا عم أقبّل مهابتك السمحاء”ص158.

أن كتاب  جمال العتابي : داخل المكان - المدن روح ومعنى ،الصادر عن دارسطور في بغداد عام 2020، يمكن تقييمه كملحمة سردية لأحداث مرّت على أماكن مختلفة في جنوب العراق ووسطه، أحداث عاشها الكاتب ، قام بتوثيقها بإسلوب شيق يشدّ القارئ اليه ويجعله يتابع القراءة دون ملل. انه محاولة للوصول إلى أعماق اللحظات التي تسكن فيه ، بإسلوب العتّابي  الخاص ، الذي يتميز به عن بقية أقرانه في الكتابة ، قلّما نجده عند بقية الكتاب المعاصرين. وهذا ما يجعل القرّاء يتلهفون لقراءة كل ما يكتبه من مقالات أدبية في الصحافة العربية ، أتمنى أن يواصل هذا النهج  في أعماله الأدبية المستقبلية.

اوسلو - النروج