ماذا لو راجع المنظّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما اليوم كتابه المثير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الذي نشره عام 1992وضمّنه إستنتاجات قاطعة من مثل:" إن ما نشهده هو نهاية التطور الأيديولوجي للجنس البشري، وعولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي للحكم البشري"؟ هذا الإستنتاج وغيره خرج به فوكوياما وهو منتشٍ بفشل التجربة الاشتراكية السوفيتية إبان إنهيار الاتحاد السوفيتي وأنظمة أوربا الشرقية الاخرى.
ماذا عساه يقول الآن وهو يبصر إنهيار المنظومة الصحية للأنظمة الرأسمالية امام إنتشار جائحة كورونا، وما سببه ذلك من أزمات وتداعيات وكوارث على الإنسانية، عرّت الرأسمالية وأظهرت جشعها وازمتها الأخلاقية، فيما لا يفرق الوباء في أذاه بين فقير وغني، يصيب رئيس الدولة عظمى كما يصيب العاطل عن العمل، ويطال من يسكن القصور الفارهة مثل من لا يجد مسكنا يؤوي اليه. حتى اصبحت رسائل بعض رؤساء الدول أقرب الى التأبين المسبق للموتى: ( ودّعوا أحباءكم... ) كما جاء في خطاب رئيس الوزراء البريطاني. بل ان هناك من وصل حد المفاضلة عند تقديم العلاج بين المصاب الأقل والمصاب الأكبر عمرا، في تعبير عن مأزق أخلاقي فاضح. وأي مأزق مروع تستشف حين تسمع أن كورونا "سيخلص النظام من كبار السن المتقاعدين" الذين تشكل كلف تقاعدهم ومعيشتهم والرعاية الصحية الممنوحة لهم عبئا على ميزانيات الدول، و"يتيح للشباب فرصا أسرع للحصول على مساكن وفرص عمل"! ما يعبر عن ازمة ضمير حقيقية وانحطاط أخلاقي مقرف.
لا ريب أن الشعوب لن تستلم أمام الحفنة المتحكمة بثروات العالم، وان قضية وجود الإنسان وصحته ومعيشته ليست مسألة فردية وشأنا شخصيا يخص المريض، وإنما هي قضية تطال الوجود الإنساني، قضية وجود أساسية يتطلب التركيز عليها والتفكير فيها على المستوى الإنساني والدولي. انها احدى القضايا المهمة التي يتوجب بحثها في المؤسسات الدولية والمنظمات الدولية ومن بينها الأمم المتحدة، واتخاذ قرارات ملزمة لا تقبل المساومة، تؤكد الحق في الحياة والصحة والبيئة المناسبة.
ولا شك ايضا في أن ما يشهده العالم اليوم هو موجة غير مسبوقة، بل هو تسونامي يحتاج من العلماء والمفكرين تأملا ودراسة واستنتاجات، تبحث في كل مسلمات النظام الرأسمالي العالمي، وانعكاساتها على الأنظمة السياسية وبرامج الحكومات.
لن تستسلم الشعوب للسياسات التي تجعل من الانسان آلة حصاد أرباح، ووسيلة للاستغلال البشع، وإذا كان صحيحا عدم التعجل في إطلاق احكام قاطعة في شأن انعكاس جائحة فيروس كورونا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، وعلى العلاقات الدولية والأوضاع الداخلية لكل بلد، فصحيح أيضا ان ما بعد جائحة كورونا سيختلف جذريًا عما قبلها.
ان تأثير هذا الفيروس لن يقتصر على الصحة الشخصية وصحة المجتمع وصحة البشر وعلى المنظومة الطبية ومستلزماتها وحسب، بل ستكون له تداعيات على الاقتصاد العالمي وحركة الأموال والبضائع وحركة الأيدي العاملة عبر الحدود الدولية، تظهر ان هناك تحولًا في هيكل العلاقات الاقتصادية للدول، سيشهده الاقتصاد العالمي بوضوح يفوق ما أمكن رؤيته في منتدى دافوس الأخير، حيث اعتُبر ما يمر به العالم موجة جديدة من العولمة، وبالفعل سميت "الموجة الرابعة من العولمة".
اننا نشهد (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) كما يريد منظرو الرأسمالية، وكما يسعى اليه جشع رأس المال. فالإنسان عندهم مجرد اداة تراكم لأموالهم وصوت انتخابي، وليس لحياته معنى في قاموس رأس المال، باعتباره موضوعا للربح والخسارة.
اما نظرتنا نحن للإنسان الذي نسعى اليه، فتستند على مقولة كارل ماركس الذائعة (الانسان أثمن رأسمال). وقد استعرتها هنا كعنوان، لأنها توجز بشدة رسالتنا المتجددة الى البشرية، التي تذكّر بمكانة الانسان الذي نكافح من اجله وفي سبيل حريته وحقوقه المرتبطة وثيقا بكرامته، والتي لا يحققها مجتمعة الا نظام سياسي اقتصادي اجتماعي عادل.