يعود تراجع اعداد المحتجين في ساحات الاعتصام الى ثلاثة عوامل، أولها استراحة المحارب التي ترافقها مراجعة وتقييم مرحلة المجابهة الباسلة مع آلة القمع التابعة للسلطة، والعامل الثاني هو التزام إجراءات مكافحة كورونا، اما الثالث فهو المهلة المؤقتة الضرورية لامتحان وعود حكومة الكاظمي بخصوص الاقتصاص من القتلة، ومحاسبة الفاسدين، وإجراء الانتخابات المبكرة، وتأمين المعيشة الضرورية.
وأما عوامل اندلاع انتفاضة جديدة فهي قائمة، وفواعلها المحركة لم تكف عن الدوران، ذلك ان احتياجات الناس لم يتم تأمينها، والمطالب لم يُستجب لها بالفعل وان تكرر القول بأحقيتها. أما الاهداف فهي ذاتها تبقى نصب عيون الشباب.
ان توقع إندلاع إنتفاضة جديدة لا يتطلب الغور عميقا في علم التنبؤ، كما لا يحتاج الى ادراك حجم السخط المستمر، الذي يعمر قلوب الشباب العاطلين والذي لا يبدده تغيير الاشخاص في قمة الحكم. كما ان اليأس من طغمة الفساد، المتشبثة بالحكم بكل قواها لم يتراجع، والوقائع تشهد ان حيتانها لا توفر فرصة إلا واستغلتها استئثارا بالسلطة، لمواصلة تعظيم ثرائها الباذخ.
ان السخط والغضب واليأس الناتج عن مجمل الأوضاع المزرية، يخلف اثارا وخيمة وسيدفع باليائسين الذين خسروا حاضرهم، ولا يبصرون بارقة امل بضمان مستقبلهم الى المواجهة، حيث يحولون خساراتهم الى سخط عارم، لا يمكن التكهن بمداه عند اشتعال الشرارة، التي لا احد يدري متى وأين ستندلع. لكن المتوقع ان تطلق لهيبا احتجاجيا كبيرا، يختلف في تركيبته ومظاهره وأسلوبه عما سبق ان شهدناه، وستتسع عمارته الاجتماعية لتضم شرائح وفئات اجتماعية جديدة، الى جانب كل المشاركات الفردية والاطر الاجتماعية والتنظيمية التي اسهمت في انتفاضة تشرين، على سعة حجمها وقوة فعلها وتضحياتها ومآثرها البطولية. وسينتظم فيها أصحاب المعاناة اليومية كالكسبة والعاملين بالأجور اليومية وسواق التكسي والباعة المتجولين، وغيرهم الكثير من جماعات القطاع الاقتصادي غير المنظم، الذين لم يلتفت اليهم احد وهم في أحوال معيشية مزرية، إثر إجراءات مكافحة جائحة كورونا، حيث فرض حضر التجول، الذي انعكس على هذه الشرائح وكأنه حضر مفروض على المعيشة!
اما خطوات التقشف التي لجأت اليها الحكومة، ومنها استقطاعات رواتب المتقاعدين، التي تتعارض مع المادة (٢٨) من دستور جمهورية العراق لسنة ٢٠٠٥ ، بنصها على انه (لا تُفرض الضرائب والرسوم، ولا تُعدل، ولا تُجبى، ولا يُعفى منها، إلا بقانون). كذلك يخالف قانون ضريبة الدخل رقم ١١٣ لسنة ١٩٨٣ في مادته السابعة: ( تعفى من الضريبة المدخولات الاتية: مدخولات المتقاعدين او عيالهم الخلف الناجمة من المصادر الاتية: أ- الراتب التقاعدي، ب- المكافاة التقاعدية، ج- مكافاة نهاية الخدمة، د- رواتب الاجازات الاعتيادية). ويبدو ان الاجراءات التي ستطال أيضا رواتب منتسبي الدولة، والتي هي جزء من اجراءات ستنفذها الحكومة كما يصرح مستشاروها، ومنها تغيير السياسة المالية بهدف خفض القيمة الشرائية للدينار العراقي، وما يرافق ذلك من تضخم مالي، فستترك اثارها السلبية وتزيد الأعباء المعيشية على الفقراء ومحدودي الدخل بشكل خاص.
ان المخرج من هذا كله يكمن في القطيعة التامة مع نظام المحاصصة، والتخلص من طغمة الفساد بضرب رؤوس حيتانها بيد من حديد، ودون تردد او هوادة. وهذا ما طالما تطلع اليه المحرومون، والذي لو حصل لوقف الشعب سندا له.
نعم، لا بد من وقفة تجبرهم على إعادة الأموال التي نهبوها، وتنزع عنهم الشرعية المزيفة التي يحتمون بها، وتزيحهم من مواقع السلطة والقرار، وتفضح هالة التقديس الكاذبة التي احاطوا انفسهم بها، وتجردهم من السلاح الذي حملوه باسم الدولة وخارج إرادتها. ولابد ايضا من الإسراع في اعلان ملفات فسادهم بشفافية كاملة، ووضعهم امام القضاء كي يقول فيهم الكلمة الفصل، بعد محاكمات علنية تبدأ بالسؤال الكبير المختصر والمفيد، السؤال الذي سيعجزون عن الاجابة عليه: من اين لك هذا؟