لم تفارقني الدهشة حين وقعت عيني لأول مرة على قرية "روست"، أكبر قرى ناحية "گلاله"، التابعة لقضاء "چومان".  كان ذلك أواسط تموز عام ١٩٨١، أيام حركة انصار حزبنا الشيوعي، وقد سحرني جوها المنعش، وهواؤها النقي، وماؤها العذب دائم التدفق من ينابيع رقراقة، كذلك كثافة مزارعها وبساتينها الغنية بأشجار التفاح والجوز والبلوط، واشجار الكرز بأغصانها المتدلية لتلامس الأرض او تكاد، وهي تكتنز الثمر بطعمه الفريد، الذي لم يذق فمي بعد ذلك مثيلا له مطلقا.

المؤلم ان ثمار كرز قرية روست لم تجد سوقا لها، شأن بقية قرى ريف كردستان الثري بمحاصيله المتنوعة، حتى ليجد المرء صعوبة في إحصاء أنواعها وحصر كمياتها، التي تكفي الاستهلاك المحلي وتغني العراق عن الإستيراد.

حضرت هذه الصور في ذهني، وأنا أستمع الى خطاب السيد مسرور بارزاني، رئيس حكومة الإقليم، يوم الجمعة  ٢٢ أيار ٢٠٢٠،  وقد سلط الضوء فيه على "مخاطر الإعتماد على مصدر دخل واحد في تأمين الإيرادات"، الامر الذي أنتج مديونة وصلت الى ٢٧ مليار دولار. والمفارقة المرة التي عكسها الخطاب، هي أن ٨٠ بالمائة من الإيرادات تذهب الى الرواتب، مع ان نسبة المستفيدين منها تبلغ "٢٠ بالمئة من سكان الإقليم".

وتثير المعطيات والأرقام التي تضمنها الخطاب ملاحظات عديدة، لا يتسع المجال هنا لايرادها. مع ذلك لا بد من القول أن القطاعات الاقتصادية غير النفطية، ومنها القطاع الزراعي الذي يزخر بموارد هائلة، لم تتم الاستفادة منها، وانما تم هدرها لصالح الإعتماد على ريع النفط، وما رافق ذلك من أزمات وخلافات تعمقت مع الحكومة الاتحادية. ويبقى السؤال مشروعا عن المتسببين في تحويل الريف الحافل بالعطاء إلى ما يشبه الصحراء القاحلة؟ بطبيعة الحال لا يمكن تبرئة النظام الدكتاتوري السابق من المسؤولية، والكل يتذكر دوره في جرف  البساتين وتخريب الأراضي الزراعية تطبيقا لـ (سياسة الأرض المحروقة)، خاصة بعد جرائم الانفال وحملات تدمير القرى  وإزالتها واجتثاث عوامل الحياة في الريف الكوردستاني.

لكن حكومات الإقليم المتعاقبة منذ الإنتفاضة عام ١٩٩١، تتحمل جزءا من المسؤولية. فبدلا من معالجة مخلفات الدكتاتورية، والقيام بإستصلاح للأراضي الزراعية، وإدخال المكننة والتكنولوجيا، وبدلا من بذل الجهود لاقامة  البنى التحتية الضرروية  لتطوير الثروة الزراعية بكافة اشكالها، بما فيها الثروة الحيوانية، وتبنّي برامج التنمية المستدامة ذات الدور المهم في بناء اقتصاد حقيقي ينعم بخيراته الجيل الحالي، ويؤسس الرفاه للأجيال القادمة، بدلا من ذلك أصبحت ظاهرة استحواذ المسؤولين وميسوري الحال على أفضل المناطق الزراعية والبساتين، وشرائها بأسعار بخسة من الفلاحين، الذين تبدلت نظرتهم للاسف ولم يعودوا يقدرون قيمة أراضيهم، التي عزّ تملكها على آبائهم وشهد التاريخ لمقاومتهم الأغوات من اجلها، وسجل مآثر تصديهم للسلطات الجائرة التي إضطهدتهم .. فتنازل احفاد ابطال الإنتفاضات، ومنها إنتفاضة دزه يي الباسلة في ربيع ١٩٥٣، التي جسدت التمسك المشروع بحقوق ملكية الأرض، وتحولوا الى منتسبين في دوائر حكومية غير منتجة، والى حراس وحمايات. أما حفنة الدولارات التي استلموها كأثمان لأراضيهم ، فقد بددتها النزعة الاستهلاكية التي فرض احكامها الاقتصاد التابع، وهاهم اليوم تحولوا الى فئات فقيرة وأكثر فقرا، ينتظرون رواتبا يتأخر صرفها.

ان الخروج من الأزمة المالية في الإقليم مرهون بالوجهة الاقتصادية، وبالجدية في تبنى إستراتيجية تنويع الاقتصاد، وفي المقدمة الاهتمام بالقطاع الزراعي، الثروة الدائمة التي لا تتحكم بها بورصة الشركات العابرة للحدود، مثلما هو حال النفط. هذا القطاع الذي سرعان ما يجد السوق مفتوحا ومرحِّبا في وسط وجنوب العراق، كما ستكون أسواق كردستان مفتوحة لما يمكن أن تنتجه محافظات الجنوب والوسط. وبهذا يفرض مبدأ تبادل المنفعة حضوره، ويتحقق التعايش المشترك بعيدا عن المشاعر السلبية، وتبني الزراعة والصناعة سوقا وطنية مشتركة، بعكس النفط الذي اصبح عنصرا في الصراع والإنقسام.

عرض مقالات: