تنقض الأزمة الاقتصادية على العراق فيما نظامه السياسي يفتش عن حلول أحلاها مرّ. فتفكير أصحاب القرار هذه الأيام ينصب على الاقتراض الخارجي لتخطي الازمة المالية الخانقة، التي تمثل مظهرا صارخا للازمة البنيوية التي تواجهها البلاد، بعد ان عجزت ايرادات الدولة من تأمين الرواتب التي تعتمد بالأساس على صادرات النفط، رغم الصعود الطفيف في أسعاره خلال الايام الاخيرة.
ان التوجه نحو الدول والمؤسسات الخارجية بهدف الاقتراض، ليس طرقا لابواب مؤسسات خيرية، مع ان المؤسسات الخيرية ذاتها وكما شهدنا، لا تمنح قرضا او مساعدة لوجه الله. وليست خافية توجهاتها ومصالح القائمين عليها وفروضهم. فكيف الامر بالنسبة للدول والمؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تأسست تحت عنوان مخادع هو "مساعدة الدول الاعضاء في تعزيز قدرتها على تبني وتطبيق سياسات اقتصادية سليمة"، وذلك عبر الالتزام بالشروط التي تفرض على الدول المقترضة. وهذه الشروط التي تسمى نفاقا بـ "الوصفات" ومداهنة بـ "برامج الاصلاح الاقتصادي" هي في حقيقتها فروض هيكلية او مالية او نقدية مقابل منح القروض، لخدمة اقتصادات الدول الرأسمالية الغنية القوية التي تتحكم بقرارتها، لمنافع ومصالح خاصة بها على حساب الشعوب الفقيرة.
ويشهد التاريخ انه لم يتم إقرار قرض خارجي واحد دون شروط وفرض التزامات. ولم تكن تجارب الدول يوما، في تعاملها مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إيجابية، بل هي تجارب مريرة في الغالب الاعم.
وكي لا نقع بالخديعة كما يحاول فرسان الليبرالية الجديدة ايهامنا بان الحل السحري هو في جعبة تلك المؤسسات الدولية، فان علينا استحضار الخلاصة الابرز التي استنتجتها الشعوب، التي فرضت عليها الديون تحمل كلف الاقتراض وأعبائها الثقيلة، التي أدت إلي سوء الأحوال المعيشية للشعوب. فباسم "الاصلاحات الاقتصادية الضرورية" يتم خفض الرواتب والتقاعد، وفرض المزيد من الضرائب، وتقليص العمالة في القطاع الحكومي بذرائع مختلفة، مما يؤدي الى ارتفاع نسب البطالة وإتساع مستويات الفقر، وانفاق المداخيل وتراجع القوة الشرائية للعملات الوطنية، وتهاوي معدلات صرفها مقابل العملات الصعبة. وكل هذه الاجراءات عمقت في نهاية المطاف الأزمة الاقتصادية في البلدان المقترِضة بدلا من تنميتها.
وبدلا من اللجوء الى خيار الاقتراض المدمر من الخارج، ثمة رهان وطني يمكن الاقدام عليه، لكنه يحتاج الى ارادة سياسية فعالة. فجل ما يحتاجه العراق هو ضرب ايادي الفاسدين، واسترجاع الأموال المنهوبة، والسيطرة على المنافذ الحدودية، والإدارة صحيحة لمزاد العملة، والتدقيق في واردات عقارات الدولة، وإعادة حساب جيوش الفضائيين، وتطبيق العدالة الاجتماعية. يرافق ذلك كله اطلاق برامج التنمية المستدامة عبر دعم القطاع الاقتصادي الحقيقي، الصناعة والزراعة.
ان المهمة الملحة الآن هي اعادة النظر في نمط الاولويات، وهذا يتطلب رؤية اجتماعية وسياسية مختلفة عن الرؤية التي حكمت توزيع الاولويات للانفاق العام في الماضي، رؤية تنحاز الى لعقلانية الاقتصادية، والى مبادئ التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.