عندما نتحدث أو نعمل، نكثر من تصوير اللحظات المهمة التي تتصل بعملنا، والسؤال لماذا يحدث ذلك؟ وكأن ما نعمله وحده الذي يستحق التصوير؟ في حين أن أية خطوة ستقع على خطى كثيرة اخرى، يمحو بعضها ويحمل بقايا البعض الآخر، بحيت تكون الخطوة التالية خليطًا من الخطوات السابقة. فجذر أية كلمة يمتد؛ أما في مدونات اللغة، وإما في الممارسات الحياتية اليومية، مرة في الشفاهية، ومرة مرتحلة الجذور مع الحكايات أوعبر الترجمات والمعايشة. كل الحياة تناصات مختلفة، وعلينا أن ندرك ونحن نحمل كاميرا في أيدينا وأعيننا، أو قلمًا لنكتب، أن ما نقوم به قد أصبح مجرى مجربًا للشعوب كلها، ومن العبث القول أنك وحدك من جنس لم يكن له مثيلًا. التصوير إعادة إنتاج الذات، حتى لو صورت شجرة أو طريقًا، أو كلبًا. فأنت موجود في كل مصوراتك.
سأتحدث عن ثيمة مكانية وجدت عددًا من المفكرين الأجانب يتحدثون عنها، بينما هذه الثيمة تشكل جزءًا من مكاننا الإجتماعي والاقتصادي والثقافي والفلسفي، من دون أن يذكرها أحد في العراق، بما يليق بمكانتها ودورها في بنية الحياة المدينية والاقتصادية والثقافية، تلك هي ثيمة " الممرات المسقوفة ". وهذ الثيمة المكانية أستعرتها من عنوان لمباحث طويلة لفالتر بنيامين، يتحدث فيها عن ممرات باريس المسقوفة، عندما زار باريس عام 1926. وبقيت ملازمة له في كل مناحي وتوجهات تفكيرة، حتى جعل منها ثيمة محورية لدراسة حياة باريس الثقافية والفلسفية والاقتصادية والفنية، عبر صور كتابية عن تحولات باريس قلب أوربا النهضة والحداثة والتنوير. فلا تجد أية مقالة له إلا وقد ربطها بمشروع الممرات المسقوفة لباريس، لتصبح الثيمة رؤية فلسفية للحركات الفنية والاجتماعية ومفاهيم الحداثة تمر من تحت هذه الممرات المسقوفة للتعرف على حياة باريس، والكيفية التي تتشكل فيه قيمها الجمالية والفكرية، ودورها اللاحق في قيادة مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة في اوربا والعالم، وترى تفكير بنيامين وهو ينتقل من باريس إلى مدن أخرى، مرتبطًا بالكيفية التي تمحنها سقوف ممرات باريس لمعاني الحداثة. ومنها تنبوءاته بما سوف يحدث نتيجة تشابك هذه الممرات المسقوفة في صياغة حياة باريس كمدينة عالمية، للتغيير وهو ما حدث عام 1968 من حركات شبابية مناهضة للرأسمالية الكولينيالية فيها، مع أن بنيامين انتحر عام 1942، ولم ير باريس بعد ذلك، لكن رؤيته للأمكنة المُخصِّبة للأفكار، عبر تصويره لممكناتها جعلت ممرات باريس المسقوفة ثيمة حية حتى في فلسفة ما بعد الحداثة، حيث نجد تاثيربنيامين واضحًا في سياقات الحداثة الباريسية والنهضة التي اضطلع بها شبابها...
في العراق، ونتيجة تلاقح العمارة العراقية بالعمارة الأوربية، خاصة الإنجليزية، نجد مفهوم الممرات المسقوفة قد وجدت تحققاتها في المدن العراقية، عبرالكثير من أبنية الأسواق، ومحطات القطار، والدور المطلة على الأنهار، كالأمكنة الموصلة بين مكانين سريين، أوالأنفاق النجفية وشارع ابو نواس وبيوت اليهود، ومن ثم اسواق الشورجة والاقمشة والصفارين والأنتيكات وما يحيط بشارع الرشيد وفروعه، كمخازن وبيوت سكن. هذا من ناحية الامكنة كوجود متحقق في العراق، ولكنها كثيمة حداثية يمكن من خلال الممرات قراءة تاريخ العراق وأحواله وتقلباته الزمنية، وتحولاته الاقتصادية والثقافية والسياسية، والانتعاش المبكر للفنون التشكيلية والشعر والعمارة ليس إلا جزء من ممرات الثقافة العالمية إلى جسدنا الفكري والمديني العراقي، كما أن للأنهار دورًا في صياغة ممرات مائية ناقلة ومخصبة، كممرات بين امكنة الكرخ والرصافة، وما استحضار التراث الحضاري لوادي الرافدين كممر طويل ومعلم بشواهد انجازية للعبور إلى العالم الحديث، ان التمعن في دلالة ممرات بغداد المسقوفة، يجعلنا ملتصقين بما يجري الآن في ساحات الإنتفاضة كممرات لحداثة العراق المستقبلية. خاصة وانها تستوطن مكانا يعد ممرا لتقطاعات الحداثة في بغداد، وهو ساحة التحرير.

عرض مقالات: