يرافقنا الظل أينما نسير، فالظلال ممالك احتياطية لمكون الذات، ولذلك تقصر هذه الممالك وتطول تبعًا لمؤثرات الضوء، وعندما لا تكون ثمة ظلال للجسد، يعني التحام الذات بملكوت الطبيعة، حيث ظل الأرض منعكسا في كواكب أخرى، من هنا تكون ظلالنا الصغيرة كبنية كونية، ارتباطها الطبيعي بالجسد، هو ارتباط الجسد بالطبيعة. لذلك لا تصلح الظلال أن تكون فيئًا، إلا ظلال الأشياء الثابتة حيث تمرنت زمنيا على العلاقة بين كيانها والأرض، تدور الظلال تبعًا لدوران الشمس، بينما لا تتمكن الشمس من ظلال الأشخاص إلا عندما يكونون عراة يسبحون في فضائها الفراغ، الجسد العاري وحده الذي يقترن بالنور، ولذلك يكتفي بالظلال له، في حين تتواصل أفياء الأشجار والجدران والأشياء معنا لتكون ثابتة بصريًا، فيلجأ إليها الجسد الملتحف.
تصلح الظلال لأن تكون أفياء، عندما تتجرد من تبعيتها المتحركة للنور، ففيها من طاقة الشعر ما يجعلها تخفف حرارة الشمس عندما تسكن جذع شجرة، وفيها من جذور الحكايات الكثير التي أراحت قوافل البدو في سيرها وتنقلاتها، لأنها ترسم مسارات طويلة للفكر على عكس ما تصنعه الظلال عن حكايات ناقصة. فالجسد قارة الاحتمالات، حين علمت المسافات لا حدود ها فترتسم على الكثبان الرملية ظلالا متغيرة.. في صميم تلك الظلال رغبة عدم التملك، فالبدوي يكتفي من الأشياء بما تنتج لا بما تظلل.
ترسم الأفياء ظلالا للروح الهاربة من الجسد، حيث الترنم بأغاني العشق يتم عبر استدارة الشمس عن محاقها، فالوهج يسقط على العاشق عندما يجد في فيء الحبيبة مكانا للبوح، كل أناشيد العشق تقترن باطمئنان أفياء المعشوق، الشجرة عندما تستبطن ذاتها في ظلها يكون الفيء لها هو ذاتها، وعلى العكس من ظلال الناس الماشين في كهف الأزمنة، لا تصنع إلا أمثلة لهم على جدرانها حياتها المتحركة بين ولادة وموت، وبفعل الضوء المتسرب من نافذة النفق الزمني، يعاد تكرار الظلال، لذلك تسير ظلالنا معنا، حتى انها لا تصنع لنا فيئا يطمئننا، على العكس تكون افياء الجدران والأشجار؛ أمكنة مستقرة، ترتبط بالمسافات الفواصل بين مفازات السفر، يطمئن إليها البدوي المسافر بوصفها من ثوابت البيئة، بينما لا يطمئن لظلال جسده الهارب من ذاته والمنعكس حكاية على الأرض متغيرة.
ترتبط الأفياء بالصور الحلمية، بتلك اليوتوبيات، التي تبعث على الاطمئنان عندما تداهمنا الشرور، فتقول أقصد فلانا كي يساعدني، أو أهجر مكاني كي استقر بعيدًا عن أعدائي، فالأفياء كيانات ملاجئ، وامكنة أمان، ومقرات بحث في تحولات الرحلة، على العكس من الظلال التي تهفت إذا اشتد الضوء وتقوى إذا ضعف، فهي بين أخذ وجدب وكأنها كائنات تخشى الموت أو الذوبان في القوى الطبيعية المبهمة. يلجأ الثوار إلى المغارات والكهوف ليقرروا مهماتهم المقبلة، في هذه الأمكنة لا ترسم لهم أية ظلال تكون اجسادهم هي الحقيقة وحدها لذلك تقترن قراراتهم الثورية بوجودهم الكامل دون ظلال.
ترتبط الأفياء بالقرى، وترتبط الظلال بالمدينة، فأي استقرار طبيعي يولد مثيلات له، واية حركة متغيرة تشكل كل اجزائها، في المدينة تتحرك الظلال تبعًا لتغيير مجالات الرؤية والسير، في المدينة تتحول الظلال إلى أفياء ولكن في داخل البيوت، في القرية تسند الأفياء بثبات الحركة واستقرارها، لذلك ينمو في احلام الطفولة القروية مستقبلنا، بينما لانجد في أحلام المدن غير مشاغلنا ومتاعبنا، فهي ظلال متحركة لا تثبت وان ثبتت ضاعت، على العكس من أفياء القرية والطفولة ستبقى ملاصقة في انتقالاتنا المكانية والزمانية. يكفي الفلاح في شهور الحرارة فيئ نخلة مثمرة، ولايكفيه اي ظلال في اية مدينة، فجدران البيوت الكونكريتية تفتت تلك الهناءة الصغيرة التي توفرها افياء النخلة المثمرة في فضاء الحقل وبين اصوات واخضرار الحشائش.
عندما تعيد تكوين الخبرات، التي مرت، تجد أن المدينة أكثر من غيرها سرعة في توطين الخبرة، الخبرة وجود للجسد وليس للظلال، لأنها مرتبطة بمخاوف العيش وتوفير الأمن، بينما لا تكون خبرة القرى والأرياف إلا بدائية، لا تجنب غائلة، ولا تطمئن من فراغ. لأنها أفياء يمكنها أن تعوضك عن بعض المخاوف، في حين أن الإنسان جبل على الحركة اللامستقرة، يسعى حيث أناشيد القبر تدعوه كأغاني حوريات عوليس على شواطئ البحار، فمهما سددت أذنيك بالشمع، وأسرع الملاحون في التجديف، ستسمع النشيد الأخير لك.

عرض مقالات: