في قصة "فن طي الروح" وهي قصة شعرية مكثفة، اقتبس استهلالها."المربع ذاته، أطويه قطريًا، ثم طوليًا، ثم بالعرض، طيّاتٌ، ثنيات، وتحديدٌ حارّ للزوايا، يحرق أطراف أصابعي. ترافقه الدندنة إياها. صار مركبًا، انتشلتُه بخفّةٍ من دمعتين، فتَني الأمر، فصارتا بحيرة على الطاولة" لنرى الكثافة السردية في البداية التي ستتركز في متن القصة على فاعلية اليد في طي الورقة لانتاج أشكال من الصور التمثيلية: مرة مركبًا، ومرة طيرًا، ومرة تشكيلات غير محددة، وهكذا تتحول الورقة إلى كلام مصور، يمكن أن يكون سردًا أو شعرًا أو كلام لحكاية لم تنته، ويمكن أن يكون رسمًا بالكلمات، كجزء من ألعاب الطفولة المتبقية في نسيج حائك كلام الحكايات. المسافة بين اليد والعين، هي نفسها بين العين والأبرة كما يقول عبد الفتاح كليطيو، وكلتاها تخيطان نسيج الروح، تلك الروح المنسوجة التي تسمى الشخصية، لانجد ثمة مسافات قصيرة أو قريبة في قصصها، كل مسافاتها مدن بعيدةتفصلها بحار ويكون الوصول إليها رحلة للطير اوسرد حكايةعوليس، ولكننا نعثر على مسافة حميمية للجسد بين اليد والورقة، بين العين والمرآة، بين القدم والممشى، مسافات تنتح الأشكال كما لو كانت اليد فعل ذكري يكتب على الورقة تشكيلات الولادات المتخيلة، كي تطير بها إلى مدن العالم، وسط نشيج ماء العين مشكلة بحيرة من اللغة. طرائق التفكير المختلفة لتشكيل صورة مركب الحلم، تتطلب تكوينات هي غيرها تكوينات تشكيل الطير، وفي النهاية تبقى الورقة بيضاء بحاجة إلى امتلاء ذاكرتها المرآوية بالرحيل، لأن روحها ما أن تتشكل على هيئة صورة، حتى تتلاشى، لذلك تبقى ضمن المربع الذي ما أنفك أن يكوّن تكوينًا هندسيًا يخلق مسافاته وتشكيلاته، كلما غيرت القاصة زاوية الرؤية.
شخصيًا لا تهمني في السرد القصصي إلا الكيفية التي تصاغ فيها الحكاية، فمن يتكلم ينشد الحياة، ومن لا يتكلم يموت، الكلام منذ شهرزاد وإلى ما لا نهاية هو الحقل المنتج للفنون والآداب، وبصيغه الجمالية المتنوعة، القاصة دنى طالب، وفي كل قصصها ورواياتها، و-هذا حكم متعجل بعض الشيء- تباشرنا أنها تتكلم عبر شخصياتها، صوتها يستبطن أصوات شخصياتها، فتبدو كل شخصياتها تتكلم كلامها حتى لا تجد ثمة فوارق تنويعية بين سرد وآخر، تكتفي بأن الحدث مختلف لكن زوايا الرؤية ونوعية الكلام، والسياق الذي توضع فيه، يبقى مصدره ذات القاصة المتأرجح بين السيرة والكلام. هذا يعني أن النصوص لا تبتعد كثيرًا عن موقع الذات وأمكنتها، والفروق في الكلام لا تجدها بين أن تكون القصة في البصرة أو في الدنمارك، عدا بعض الإشارات لطبيعة المكان الخارجية. ومحاولات كثير منها لتضييع الأثر المكاني، لكن المدينة تضخ لغتها المؤسساتية في نسيج القصص، ثمة حشائش مدينية لا مرئية تنبت مشيرة إلى نوع تربتها ومناخها. إلا أن هذا لايعني ثمة ثبات على تبني وظائف بروب أو أي نمط ثابت للسرد، للقاصة قدرة ذاتية على تميزها الشخصي في الكلام، وهو تميز مصدره الغنائية الشعرية التي تبني سياقها على المحتملات والمؤولات، هذا الغنى نجده بارزًا في قصة مثل" زيت منتهى الصلاحية أو محاولة لتفكيك رائحة جلد عطنة" ومن العنوان الطويل تتضح أوليات الصور عن مراحل متعددة سيسلكها هذا الصبي، ابتداء من العراق حتى كوينهاكن، مرورًا بعشرات الأمكنة والمواقف التي كتبوا عنها سيرته وأفكاره لتصبح الحياة ورقة، وجدت نفسها محلقة في سماوات المدن والبحار لتحط أخيرًا كالطائرفي قصتها السابقة على طاولة المحقق الدنماركي وهو ينظر في سيرة الصبي طلبًا للجوء، هذه السيرة التي تمتد مئات الكيلومترات وجدت سرديتها في ورقة تقلبها الأيدي والرياح والتظاهرات والأهواء، والكل يكتب عليها ثم يأتي من يمحو ما كتب، ليستبدله بما يكتب، لتصبح الورقة رحلة الطير لدى السهروردي تحلق في فضاء المكان نفسه لكن الرؤية إليها تنطلق من زوايا المدن الحديثة، فتبدو الورقة كما في القصة السابقة مجموعة تشكيلات عن الحياة اليومية وما تقدم وتأخر منها، هذه المرة تعود الشخصية إلى ذاكرتها يوم كانت طالبة في جامعة البصرة، تستدعى من قبل الأمن لتحقيق معها بعد مصادرة جوازها، وتختلط في هذه السيرة مشاعر الذات لطالبة مع حبيبها بمشاعر الغضب تجاه الضابط الذي يقلها في سيارته للامن، السرد المتتابع يتوافق مع حركة العربة وحركة انتقالات الذكريات بين البصرة وكوبنهاكن، وسط تشابه الأجهزة الأمنية في العالم، بسبل تحقيق متشابهة، فالامرلم يعد مجرد انتقال من بلد إلى آخر، بقدر ما يعود للإنتقال للمسرود من طرق تحقيق إلى اخرى، ويبقى الشخص مشدودًا إلى اللغة المبهمة، حين تتضح مخاطرها من نظرة التمثال (الرمز) للصبي في المتحف التي تحولت نظرته الثاقبة إلى بروجكتر يضيء للشخصية طريق الرحلة إلى بلد اللجوء. قصة من حكايات الهاربين تحمل صدقها الفني، ميزتها هي الحركة بين المتحف والحياة الماضية داخل النفس عبرسرد ذكريات، تحولت أيضا إلى أوراق محفوظة في اضبارة الأمن سواء اكان التحقيق في البصرة أم في كوبنهاكن، والضحية هو انسانية قلقة أُشبعت بالمحتملات والمخاوف أنسان الكلام المنفتح، انسان القلق ن الإنسان الوجودي، انسان الأسئلة. يتحول تمثال الصبي إلى رمز يمكنه أن يشمل مجموعة من الحالات حتى لو اختلفت أمكنتها وازمنتها."إن الإنتقال من مسرود إلى آخر ممكن بفضل وجود رمز. وهذا الرمز ليس صنعًا شخصيًا لمؤلف البحث، بل هومشترك بين (الجميع)، وهو يقوم على الربط بين شيء وآخر، إنه تمثيل لشيء آخر؛ ويمكن أن نتصور بسهولة تركيب قاموس (لغوي) حقيقي" تودوروف شعرية النثر. ص 71.
في كل قصص المجموعة ثمة مسافة بين نقطتين،هنا/هناك، قد تكون الـ"هنا" البصرة، والـ "هناك" الدنمارك، وقد يكون الأمر معكوسًا، ولكن خط السرد لا يتوافق مع أي عكوسية، لذلك تكون الشخصية في "هناك" وتستدعي الـ"هنا" ،وغالبًا ما ترتبط الـ"الهناك" بالدراسة وفترة الشباب والعلاقات المختلفة، واجواء الملاحقات السياسية والاختفاء، وحتى تلك المغازلات الشقية المفروضة، معلنة عن أجواء سادية مورست ضد شخصياتها، في حين تكون الـ"هنا" الثانية في الدنمارك موقدًا للحكاية، تتداول مفدراتها على نار موقدها ، بانسياب حرارتها البيتية على علاقاتها الجسدية .لذلك تكون كل قصصها بين مسافة لها بداية وليس لها نهاية، حكايات متتالية عن المسافات الحميمية والمسافات الشخصية، ونادرًا ما نجد في قصصها مسافة إجتماعية أو مسافة جماهيرية عامة، كمايشير إدورد هال في "البعد الخفي" لأهمية المسافات في السرد. كل قصصها مؤلفة من شخصيتين، وهذا يعني اعتمادها على المسافة الشخصية التي تمكنها من ابلاغ صورتها حوارًا وسردًا بصوت محكي مسموع، كما لو أنَّها حكاية واحدة جرى تجزأتها وفق متطلبات السياق الذي وضعت فيه، فقصصها متوالية قصصية كما يشير إلى ذلك الدكتور ثائر العذاري عن هذا النوع من القصص. أجد أن المسافة في قصص دنى مشحونة بضمير واحد مركب من ضمائر كثيرة، الحوار أحيانًا بين ذاتين منشطرتين، واحدة مبتدأ والثانية خبرًا. شخصية مركبة منوعة المقاصد والأهداف، مجتمعة في السرد، لترسم فيها خارطة القرب والبعد لمحطات حياتها، وتلوينها لسيرتها بألوان على ورقة بيضاء، سرعان ما تمحوها في قصة أخرى، وتصبح القصة السابقة اثرًا يتراءى من خلال ضباب القصص اللاحقة. تبني دنى عمارة شعبية من طوابق حياتها وتلويناتها، وتزيّنها بألوان الطفولة، وبعض المنغصات الحياتية، واضعة القارئ في جو أليف يمكن أن يستعير بعض مفرداتها ليضيفها إلى حكاياته الذاتية.
ليست دنى قاصة مبتدئة، فقد خبرت الكتابة وتدرجت في الوعي بها، واغنتها بالترجمة والحضور، لتحتل مكانة في الثقافة العراقية، ميزتها بثيمة "العبور" من وإلى، وهي من الثيمات المتحركة بالوعي وبالممارسة، ثيمة غير ساكنة، كل قصصها تحمل ثيمة"المعبر" "الجسر" "العربة" الطبكة" "السيارة" "الطائرة" " طيارة الورق" "الحلم" السفر"...الخ، وكأن الحياة حركة بين ضفتين، والعبور من السكون إلى الحركة، والعبور من الذات المغلقة إلى الذات المنفتحة، ومن الصمت إلى الحوار، ومن مسافة الحيز الضيق إلى الحيز المشترك، هكذا بنت دنى رؤيتها لعالم لايُقمع ولا يبث الكراهية، عالم ثر منزوع الكراهية، عالم بلا كواتم صوت ولا تحقيقات ولا أسئلة عن الجدود؛ ألاحياء منهم والأموات، ولا عن هوية القراءة وكتابة الاشعار، عالم يبدأ بصباح ندي ولا ينتهي إلا بصباح آخر تغيب عنه نيران المساءلة. هذه ثيمة الحكاية الشعبية الحالمة المترسخة في اللاوعي المعرفي والعابرة إلينا من الليالي والقصص الشعبي، لتطعم حياتنا اليومية في مدينة القرن الواحد والعشرين، بسياقات راسخة في ملازمة الحرية للإنسان، ثيمة العبور والمعبر يعني ثمية عين تتوجه إلى هناك، وثيمة حركة جسدية تخطو باتجاه الضفة الأخرى، وثيمة لغة تتشبع بالجديد، وما بين الضفتين ثمية مسافة ليست شخصية كما يشخص إدورد هال، وليست حميمية إلا بحدود اللقاء مع الآخر، وليس جماهيرية عامة تشمل الجميع ولا هي اجتماعية، إنما هي مسافة رغبة للتحرر من سلاسل قيد سياسية واجتماعية وفكرية وجسدية، كي يغادر الكائن سجنه الذاتي، لقد اشبعت الحكايات الشعبية ثيمة العبور حتى لكأن السفر يتطلب تمثلات: طيارة الورق، والزورق، والمركب، والقطار، والمطار، والحقيبة، والبساط، والجواز المزور، والوثائق التي تعين الهوية، مصحوبة بلغة مركزة كي لا تنسى الحكاية عندما يحققون معها، ومشفوعة باقتصاد شعوري مركز عن الماضي،، كي لا تنهار اللغة لغير مقاصدها، وستكون الضفة الأخر لنهر الزمن هي الملجأ المبهم، سواء كانت الضفة الأخرى داخلية أم خارجية.
تمثل ثيمة العبور تحولًا، في كل مفردات الكائن الحاكي، ودنى ترصد شعوريًا تحول الحكي، باللغة المقتصدة، والتركيز الشعوري، والاصرار على النجاح، والنسيان المقصود للمتطلبات الصغيرة، والإلتحام بكل كائن يتحرك ليتكلم بعيدًا عن حيزه الذاتي. كما يتطلب العبور ممارسة جسدية مرنة، وموقعًا منفتحًا للتعليم، وحرية في اللسان، ولغة حكاءة، لقد بحث اللاجئون عن يوتيبا واقعية بديلة ليوتوبيا الجنة الكلامية، وكأن اليوتوبيا مجرد بلد آخر يفتح مسافاته لكائن مقموع.
هل تكفي هذه الرحة الصغيرة للحديث عن انجاز كاتبة شقت التربة بعينيها لتزرع فيها بذور تجربة غير شخصية، تجربة انسان المدينة القلق. ربما ثمة عودة لروايتها "بطنها مأوى" ففيها توسيع لطاقة الكلام المسرود.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملاحظة.. يعتذر الكاتب عن الخطأ الذي وقع فيه عند كتابة اسم المؤلفة في الحلقة السابقة.