1
تعد الكتابة عن النجف كتابة عن كل سردياتها الصغيرة والكبيرة، فهي مدينة اشكالية تتعالق فيها المتناقضات، لها في الأرض عمقاً وفي السماء امتداداً، وعلينا أن ندرك أن الكتابة عنها ستكون كتابة اشكالية عن تاريخها المشتبك بالحياة الدينية والسياسية وما تتطلبه السماء وما يزرع في الأرض، وعليه لن تكون هذه المدينة على وضعها المتماسك إذا أدخلت رأسها في الحياة السياسية اليومية بأكاذيبها وتطلعاتها، ولن تكون مستقرة منعزلة إذا بقيت تردد مقولات ونصوص في عالمنا الحديث، لذلك، وهي تعاني من هذه الازدواجية.
تسربت النجف كمدينة عريقة لتطمغ مدننا أخرى في العالم، قم ومكة وغيرها، وعليه فالتدوين عن فاعلية الأدب الروائي فيها، يعني الكشف عن جانب من سردياتها المضمرة في هذين البعدين:المدينة الأرضية بكل ما تعنيه حقيقتها المادية، والمدينة السماوية بل ما تعنيه حقيقتها الروحية. هذه المدينة الجامعة للنص العراقي تستبطن التقاليد القديمة وتشرئب باعناقها إلى الحداثة، وهو ما يجعل بعض ابنائها ينخرطون في السياسة والاقتصاد واللغة، والبعض الأخر وهو يطوي كتابه التعلمي تحت ابطه يصوّب عينيه على سوق التجارة والسياسة.
المدينة الجامعة لنصها التكويني فيها من المثيولوجيا أعراق وجذور، وفيها من المعاصرة فروع واثمار، اما الجذع الذي يوصل بين الجذور والأغصان فثري وخصب، ففي حياتها المتقلبة؛ من مدينة تحيطها المياه، إلى مدينة جافة مرتفعة عن الأرض، تنظر إلى العالم من خلال المنح والشح، فمن وراء نافذة زمنها الخصب، تنظر إلى بحرها الجاف لإعادة كتابها مدونتها السردية القديمة، مطعمة برؤى الحداثة. فتجد فيها بقايا اثاراً تمتد للعصور التراثية القديمة، كما لو أن بنية السرداب فيها بنية عروق تمتد لتلك الجذور الباردة اللامتشكلة، وتتطلع بهوائياتها المنتصبة فوق السطوح لاقتناص الريح، لعصور مقبلة، لتغذي شواهدها التراثية النائمة والمستريحة في خزائن السرداب المجاورة لقبور ومراقد الأئمة الكرام، مانحة الزائرين مثيولوجيا معاصرة، مطعمة بروح قدسية قلما نجد لها مثيلًا في العالم." من هذا المنظور يقف الإبداع والفكر إلى جانب الانفتاح والاستمرار في البقاء، لأن الإبداع هو تأمل في الحياة لا في الموت والآخرة وهو استنهاض للتحدي والمواجهة ودعوة ممارسة الحرية ضمن جدلية مخصبة بين الفردية والغيرية".
2
لايتحدث الاستاذ الروائي والشاعر حميد الحريزي عن الرواية في النجف فقط، بل يتحدث عن النجف المكان الكوني السارد لأشكال من الفنون والآداب، ففي بحثه الجاد عن هذه التكوينات المعرفية صورة لجذورها وتطوراتها وانتكاساتها وحيويتها ومياهها واندثار آثارها، ثم ما تبقي منها شواهد أطعم اللغة بتعريفات عن معنى ودلالة النجف لغة ومادة تأمل، هذه السياحة السردية ليست مقحمة على مدينة خزائن الموروث، ولا هي من ثقافات عابرة التقطها المؤلف عن أثر المدينة في الرواية ، بل أن كتابه هذا يحتاج إلى وقفات أكثر من كلمات سريعة اقولها من منجز قلما وجدت مثل حماسة كتابته، وكأنه يكتب عن مدينة كونية ما تزال شابة متطلعة بدليل امتداد هويتها القدسية القديمة والحديثة في مدننا العراقية وفي حياتنا السياسية المعاصرة.
أن الرواية بنية في مسرود كلامها التراثي والتاريخي، وللصدفة أن حديث الاستاذ حميد الحريزي عن الروايات لايشمل تاريخ ظهورها في عام 1932 لدى جعفر الخليلي فقط، بل يتحدث عن كلام المدينة المتغلغل في التراث وفي المعاصرة، صانعًا سرديات روائية لم تتوقف عند أشكالها السردية القديمة، بل امتزج فيها الشعر بالحوار، الحدث بالحكاية، اللغة الشفاهية باللغة المدونة، حيث سردية النجف أكبر من أي سردية اخرى، فامتدادها في الشعر والمقالة والبحث والاجتهاد والسياسة والتقدم الفكري والحضور الفاعل كمدينة سماوية تميز نفسها عن المدن الأرضية، له تأثير على ثقافة العراق كله، إن لم يمتد التأثير إلى بلدان ومدن عربية واسلامية. ولهذا السبب قلت الصناعات فيها وكثرت المكتبات، وهذا شيء منطقي حين نجدها مدينة ثائرة ركبت مقدمة عربة الثورات العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي ومازالت، واخصبت رؤاها الفكرية شخصيات انتمت لليسار أكثر من أي انتماء آخر، لأنها مدينة الكلمة والكتابة والأجتهاد والبحث والعقل، لا مدينة الاستنساخ والقعود والصلاة على الاموات فقط،" وقد وصل الأمر بالبريطانيين أن يصفوا بعض علماء الدين المعارضين لهم بالبلاشفة، وأنّ أحد أسباب انتشار الفكر الشيوعي في النجف هو وجود جماعات من مختلف البلدان الإسلامية القريبة من روسيا وعلى تواصل مع الثوار البلاشفة، وخصوصاً الإيرانيين والأفغانيين والأتراك، والأرمن وغيرهم".
من هنا أصبحت سردياتها تستبطن أحداثها المخفية، فنجدها متراوحة بين التجديد واعادة انتاج الحكاية، فهي المدينة التي تمثل دور الحكاية والرواية في الفقه الشيعي التي تمد أسبابها للمعتقد.
اقول ليس بحث الاستاذ الحريزي عن الرواية بمعزل عن سردية المدينة التاريخية الكبرى، ولا عن المدينة بمعزل عن سردياتها الشعبية وثقافتها، فكان له أن يقدم لنا اضمامة من أنوار التراث والمعاصرة، بأثواب المدونات التراثية والرؤية النقدية، وله في هذا الجامع الشامل الذي حققه بجزئين القول: أن لكل مدينة عراقية نصيب متميز في ثقافة النجف، ومن حق أدبائها أن يجتهدوا في اظهار هذا التميز، كي يقف البحث والنقد على عموميات التجربة الثقافية في العراق، وتكون بغداد أو الموصل او البصرة في العين منه، ففي المدن الأخرى نبتت شتلات روائية وشعرية مثمرة لم يسلط الضوء عليها، لذا عدّ هذا الجهد بمثابة مسار نقدي قبل أن يكون تجميعًا للإنتاج الروائي.
خلال تسعون عامًا، وهو تاريخ طويل تراكمت معارف الأدباء، جامعين بين الموروث الديني والتطلع للحرية، أنتجت نصوص روائية مهمة، وقد سلط الحريزي الضوء على أهميتها من ناحيتين: محتوياتها التي ارتبطت بتاريح الإنسان العراقي، وأشكالها الفنية التي رسمت طريقة للمزاوجة بين السرد الحكائي والاستبطان الشعوري النفسي، فالبطل دائمًا ما يكون صوتًا يعبر عن المجموع، ولعل صوت المؤلف النقدي يفصح عن هذا الاهتمام المزدوج بالمدينة وبانتاجها الثقافي" منذ سنوات وأنا أصارع فكرة إنجاز كتاب حول الرواية في مدينة النجف، لأني لم أجد ما يشبع فضولي في هذا المجال، بمعنى لم أجد كتابًا يبحث في تاريخ الرواية في النجف مقارنة بالعديد من الدراسات والكتب في تاريخ الشعر والمجالس الشعرية والشعراء في المدينة، مما جعلني أشعر أن هناك نقصًا كبيرًا في توصيف مدينة النجف كمدينة من دون الاهتمام بالسرد والرواية خصوصًا، فلا مدينة بلا رواية ولا رواية بلا مدينة. ونظرة على فهرست الجزء الاول الذي احتوى على 46 رواية، نجد أن المؤلف لايكتفي بالتدوين والمتابعة فقط، إنما يفرض حسه النقدي كي تكون مهمته في هذا البحث مزدوجة: نقدية وتدوينية، وقدم ملخصات ضافية لعدد كبير من الروايات، ملقيًا الضوء على الكيفية التي تكتب الرواية بها، واصفًا موضوعاتها وطرائقها الفنية.
لقد ارتبط الحس النقدي عند الحريزي بالحس الوطني، ويلاحظ أن دراسته عن الرواية اعتمدت على افكار النقاد التقدميين راسمًا فيها ملامح متقاربة مع مواضيع واشكال الرواية النجفية التي تنوعت موضوعاتها بين الرواية الاجتماعية والرواية العلمية والرواية الشخصية ورواية البحث، مما يدل على أن اهتمام الروائيين النجفيين لايبتعد عن مكونات ثقافة الفئة المتنورة التي ترى في طريق المسرود امكانية المزاوجة بين ما هومحلي وعالمي، ومن داخل هذه التركيبة النقدية يحلل الحريزي حياة ومشكلات النجف، ولايستغرب القارئ من أن يجد حضورًا ملفتًا للتيار اليساري في ثقافة النجف الابداعية، وفي حياة شخصياتها الاجتماعية والدينية، وفي الوقت نفسه الذي تنهض فيه قيم التحرر، تصدر فتاوى تكفير للتيار اليساري صبت في مصلحة الفاشست في شباط الاسود عام 1963. "ورغم المحاولات الجادة والمبكرة للعديد من الشخصيات الدينية والمدنية للتجديد والتحديث ونبذ التخلف والحد من اللاهوت المتزمت ولكن أغلب هذه المحاولات باءت بالفشل. وكما قال الشيخ علي الشرقي: (توجد في النجف طائفة من المتجددة قد تمردت أرواحهم على التقاليد البائدة، وتعاطوا وجوه الإصلاح، فهدموا شيئًا وبنوا شيئًا ورموا أشياء، ولكنهم ممتحنون بحالة اجتماعية ثقيلة فلا يجدون نوعًا من التنشيط ولا طرفًا من الإقبال على بضاعتهم فهم يتغذون بأدمغتهم وينتعشون بأرواحهم، وتكاد تكون حياتهم في عزلة وانقطاع والأديب النجفي يعيش فلك وحده)" .
3
يتطرق الناقد إلى البنية الاجتماعية في الروايات النجفية، فيجد ان الطبيعة الاقتصادية مؤثرة، وأن الاحتلال التركي ودخول الصناعات اليدوية للمدينة قد اسست فئة اجتماعية عاملة.
صحيح أنها لم ترق إلى مستوى الطبقة" ولا نجد توصيفاً حقيقاً لطبقة عاملة، ناهيك عن بروليتاريا كنقيض للطبقة الأولى، وانَّما حثالة من بروليتاريا رثة من كسبة وعمال بناء وخدمات في الفنادق والمطاعم وغيرها، ونتيجة لذلك لا توجد طبقة متوسطة واضحة المعالم والتوصيف."ولكن هذه "الحثالة" كما يسميها الحريزي، كانت شريحة واسعة من البنية الاجتماعية للمدينة، وهي عماد معظم الشخصيات والاحداث للروايات التي عالجها في الجزء الأول.
كل ما ذكرناه آنفًأ حول (مدينة) النجف، يشمل بمقدار وآخر المدن العراقية الأخرى التي عرقل الإقطاع والاستعمار التركي والبريطاني نموها ووقف في طريق التقدم الزراعي والصناعي في العراق عموماً خدمة لمصالحه كونه سوقاً لبضائعهم ومصدراً لثرواتهم من خلال سلب ثرواته وكبح تقدمه وخصوصاً بعد أنْ حولت دولته من دولة تعتمد الخراج الزراعي إلى دولة الريع النفطي، وبذلك قتل تطلعات البرجوازية الوطنية المنتجة وأعاق تقدمها وتطورها.
كتاب الحريزي الموسوعي واحد من انجازات ثقافية تؤسس لعلاقة بنية المدينة بالإنتاج الثقافي، ليس كانعكاس لهذه البنية، وإنما لتمثيلها فنيًا.