غالبًا ما يقرن النقد الاجتماعي الواقعية بالوضوح، أو العكس، أي ما هو واقعي سيكون في النقد واضحًا، وما هو واضح في النقد سيكون واقعيًا، هذه الملازمة بين الأثنين تحمل مخاطرها المعرفية، وقد توقع من يتعامل نقديًا مع النصوص الواقعية أو مع الخطابات النصية الواضحة من حيث مقاصدها وبنيتها، في اشكاليات عدم التفريق بين الاثنين، فليس كل ما هو واقعي واضحًا، وليس كل ما هو واضح في الآنية واقعيًا، الدليل على أن الواقع ليس سطحًا فقط لما يجري فيه من أحداث ليرى من وجهة نظر واحده، فالواقعي طبقات متباينة السمك والأفعال والحضور والغياب، منها ما هو مباشر يومي، ومنها ما هو تحت الظاهرة الحياتية اليومية، وقد تشكل في أمكنة وأزمنة مختلفة، ومنها ما هو مرتبط بالمخيلة، وبالأحلام، بالإرادة، بالآخر، بما لم تنتجه يداك كأفعال الطبيعة، ومنها ما لا تراه الأعين، ومنها ما هو بعلاقات مشتبكة مع أشياء أخرى ليس لها محددات آنية يمكن استقراء ما يجري من خلالها، ومنها ما هو متصل بالنوايا والافعال اليومية المباشرة وغير المباشرة، ومنها ما هو لفظي وآخر حسي ومنها ما يرتبط بالإنسان المفرد أو الجماعة ، وهكذا فكل واقعي ليس معطى ثابتًا، ولا ثيمة تتكرر كلما فتحنا أعيننا وأفواهنا على ما يحيطنا. بل أن التبصر في الواقع يحيلنا على مستويات من الفعل لا تستوعبه أفعال النحو، فليس ماضي الأفعال ولا حاضرها ولا مستقبلها يمكن قياسه بفعل محدد، فللماضي في فعله مستويات زمنية، وللحاضر في فعله مستويات زمنية، وهكذا في فعل المستقبل، ليس من فعل يشخص كل الأزمنة، لذلك فالواقعي عبارة عن تراكم من افعال الأزمنة، وليس فعلًا زمنيًا واحدًا، نشير إليه بـ ذهب، قدم، أتى..الخ. وهكذا نجد أن تحت سطح الواقع اليومي جملة طبقات ليست مكشوفة، كي نعثر على بقايا آثار الماضي تحت هذا السطح الواقعي، علينا أن ننقب عنه وفق خرائط ومدونات سابقة، وقل ذلك بشأن المستقبل والحاضر، ما يشفع للأدب أنه يلغي الزمن الحاضر حتى لو تناول أحداثه الجارية، لأنه يعتمد جريان الزمن وليس ثباته، نعثر على المنبع والمصب لكل واقعية الأزمنة، ولذلك ليس من وضوح كامل في اي مجرى زمني للحدث، ينشط التأويل عندما ينفتح الفعل الواقعي على غموض الأشياء، وليس على وضوحها. والأدب وحده من يجعل الواقعي خياليًا، عندما يغرّبه عن يوميته ويكشف عن محمولاته المختفية في طياته الزمنية، وفي ممارساته العميقة ومجالات اشتغاله، ومن الواقعيات ما يحمل افكارًا مبهمة على الرغم من البداهة والمباشرة والتبادلية اليومية لها، لذلك لا يمكن فهم الواقع بضفاف محددة، وقد كتب غارودي عن (الواقعية بلا ضفاف) معتبرًا إياها الميدان الفاعل للمخيلة وللتراث والأفكار المستقبلية، وأن النظر إلى الأشياء الواقعية، يحمل وجهات نظر فلسفية عديدة.
قد تنفع المقارنة بين مكانين واقعيين، أحدهما مكانك العراقي قبل الهجرة، والآخر هو مكانك في بلدان الهجرة حيث تعيش الآن، كلاهما واقع، ولكن ثمة زمنين مختلفين يفصل بينهما، أحدهما الماضي الذي كنته، وهو ما يزال حاضرًا بحياتك وتذكرك له، والأخر هو الحاضر من خلال الممارسة اليومية فيه، أين الوضوح؟ سنجد أن الأمكنة الواقعية وما فيها من أحداث ستكون أكثر وضوحًا عندما تبتعد زمنيًا عنها، في حين أن معايشتنا للواقع يوميًا تُغيّب الوضوح على الرغم من الممارسة الفعلية لأبعاده الواقعية، الأمر الذي يدعونا إلى القول: أن الوضوح لا يرتبط بالواقعي، بقدر ارتباطه بالتجربة، كلما بعدت التجربة عنه زاد الواقع وضوحًا، لذلك ليس من زمن يكشف وضوح الماضي في الواقع، إلا الزمن الحاضر.