لا ترى بغداد من خلال صورها الجميلة المتفرقة فقط، كما لا ترى من خلال صورها القبيحة المعششة في الشوارع والأزقة أيضًا، بل ترى من خلال تركيبتها السياسية التي تحكمت بهويتها، ومقدرات شعبها، هذه الرؤية القائمة على التمسك بخيوط العاب المدينة وحدها التي ترسم صورة بانورامية لمدينة بغداد المنهارة في عهدين مرا عليها ، عهد ما قبل 2003 ويمتد للخمسينيات، وهو عهد الانقلابات مع تجديد في بنيتها العمرانية، وعهد ما بعد 2003 ويمتد لما يحدث الآن في ساحة التحرير، بحيث أصبح ما يفعله الشباب في ممرات ساحة التحرير وزواياها من تنظيف وتجديد، هو الهوية المقبلة لها، بحيث انقلبت من التغني بها إلى الاحتضار لمكوناتها التي مزقت هوية المدينة وحوّلتها إلى عوازل كونكريتية بما فيها منطقة السلطة. والمفصل الثاني هو المفصل الذي يحاول الشباب الآن صياغته بأيديهم العارية. من خلال الوعي بصياغة منهجية للحداثة والصوت الذي يصل العالم الحر، ومدنية تنفتح ببطء على أفق إنساني. ووراء المفصلين تجد الثقافة بنوعيها الجاد والكوميدي؛ مجموعة من القصائد والرسوم، إلى جوار النكات والأدب الساخر، فالممارسات الاحتفالية، والتصرفات غيرت الشكل العام للمدينة، يحدث كل ذلك بالضد مما كانت بغداد تعيشه، من صور لبضاعة مغشوشة ومن زحف الأرصفة على الشوارع، ومن استبدال قوانين المرور بإشارات غريبة، ومن اشباع الرؤية ببهرجات لتزين أعمدة جسر الجادرية والأعظمية بأضواء على اشكال الألبسة النسائية. حينئذ تشعر أن المدينة فقدت على أيدي الساسة هويتها، وعندما تتأمل مساحاتها تجدها لاهي أشجار للنخيل، ولاهي ورود، ولا هي حدائق، وفي معظم هذه الصورة المعاشة في بغداد تتمرأى للمتتبع الصور الجنسية الغرائزية وهي تتشكل يوميًا بطرائق أداء كما لو كنا في مسرح لشارع ارتجالي لا تضبطه اية قوانين. كل هذه الصور الطارئة جرى تثبيتها بأسماء مقدسة، وكأن القداسة صنو الخراب، أية مفارقة تعيشها المدن الإشكالية عندما لا تجد من يحكمها من سكانها؟ وللأمر بعد ذلك تبعات دينية ومناطقية، وكأن زحف القرية على المدينة الذي اقتصر في الستينيات على هجرة الفلاحين للعمل في بغداد، أصبح اليوم زحفًا يسحب خلفة ثقافة مغايرة لثقافة المدينة، فتحولت بغداد من النص التراثي والتاريخي والمدينة المتروبول إلى النص القروي المشتت الهوية والمدعوم من الثقافة الغرائزية المصحوبة بالمخدرات والكبسلة والحشيشة، لتنتج مفردات تفرض وجودها على أسماع وأبصار المارين، لتجبرهم على معايشتها والتعامل اليومي مع مفرداتها الغريبة دون سؤال، لذلك لم يكتب لبغداد بعد 2003أي نّص يمكن الاستشهاد به، بل كل ما كتب عنها خربشات على سطح مدينة فقدت هويتها، ليس بسبب زحف القرية فقط، إنما باعتماد سياسة الإلغاء والتعويض بمدن ثانوية بعيدة عن بغداد، وجعلها مدنًا متحكمة بالعراق، وهذه الثقافة السياسية واحدة من هويات الاستبداد حينما جعل النظام السابق قضاء ثانويًا بعيدًا، مركزا للعراق لمجرد أن الحاكم ولد فيه، وجعل هؤلاء قرى وأزقة مهملة في أقاصي المدن تتحكم بمسار البلاد كلها، الأمر الذي يعني أن أي متجول في بغداد اليوم يجد ممرات عديدة للوصول إلى هويتها، فبدلًا من القصر الجمهوري كمركز للحكم، أصبحت مراكز كثيرة تستثمر هوية القصر الجمهوري حين تحولت تقاطعات الطرق إلى سيطرات لضبط ايقاع الناس كمحاولة اخضاعهم لشروط القرية التي تتحكم بممرات المدينة، وبالقدر الذي كنا نتغزل فيه ببغداد، عندما نزورها، ونحول سفرتنا إلى أغنية تتغزل بجمالها ونسائها ومحلاتها ومطاعمها وشوارعها، أصبحنا اليوم فقراء حتى من لغة التغزل الموروثة، فلا نجد تلك الصورة التي بنيت عليها بغداد ولا أغنية تمجد تاريخها، وحتى دجلة الخير تخلى بفعلهم عنها. مما يعني أن الممرات الكثيرة التي تمر بها أية معاملة صحية أو ادارية أو طلب صحة صدور، عليها أن تمر في ممرات للحزن والتعب والقلق والمحسوبية والرشوة والفساد، فبغداد التي كانت نصًا للأغاني والأشعار والموسيقى والمسرح والتشكيل، أصبحت نصوصًا للرفض والموت والرشوة والفساد، ومن ضمن هذا التردي الشامل؛ ينهض برلمان وصورة كاريكاتورية للسلطة بإمكانها أن ترفع هراواتها الدموية بوجه أية نظافة للشارع، وبوجه اي علم يستر عريها، وبوجه أي شاب انتفض على فقره قبل أن ينتفض على السلطة، هذه المدينة التي غيبوا ذاتها ونصها الحضاري؛ واحدة من المدن التي ستعيد هويتها ممرات ساحة التحرير الشبابية. 

عرض مقالات: