هذه الروائية لاتكتب نصوصًا قصصية، بل تكتب مواقفًا اجتماعية ونفسية تتلبسها حكايات معاصرة من إنتاج مؤسسات المدن، وتكون المؤلفة العين الرائية لحركات شخصياتها وكيف تفكر بالعبور إلى، حتى لكأنك تقرأ سيرة ذاتية لها، في حين أنَّها لا تكتب سيرة ذاتية، ولا تتحدث عن سيرة ل شخصيات أخرى، كل شخصياتها حاملة للأسئلة المبهمة، عن كيف نوجد، شخصيات على علاقة بفكرة المدينة اليوتوبيا. حتى لو كانت أحداثها وشخصياتها قروية او ريفية، فالمدينة تمتلك لغة الطاقة المكانية التي تفرضها على حيوات الشخصيات القلقة، عن سؤال كيف يمكن استيعاب العالم الآخر. شخصيات دنى طالب بعيون بشرية وأقدام شبحية مدربة تقذفها المؤلفة في عالم مدينة الشك والمطارة والقمع، وعليها أن تعيش فيها بالرؤية الملتفتة والسير الحذر. عالم دنى غالي حكاية لمدينةقامعة، تبدأ من حياة نصف مفتتة تحمل تفتتها مدونة على ورقة بيضاء، أو محفوظة في فايل اللجوء. أو مدونة لاتنسى، تكون الأنا فيها مركزية، شخصيات لا تنظر وراءها، لأن حياتها عبارة عن محطات قطار لايتوقف إلا لنقلها من مدينة شاحبة إلى مدينة آخرى أكثر اضاءة، قد يكون العبور مجرد حلم، او شخبطات قلم على ورقة بيضاءن اوكلمات لقصيدة ناقصة.. وما بين المدينتين مسافة تعيد تأمل وجودها فيهما، حياتها مؤلفة من مجموعة مسافات متباعدة، يكون الخطو فيها دائريًا، ما أن تحل في مدينة أكثر إضاءة، حتى ينثال حلم المدينة الأقل اضاءة، وكأن العتمة تلاصق الضوء، كما لو كانت المدينة القديمة ظلًا للمدينة الجديدة، هكذا تتحرك دنى بشخصياتها بين حكاية قديمة لم تبق منها إلا مفردات مركزة، وحكاية المدينة الجديدة التي تستثمرها بالعينين والصورة والحركة والسؤال، بالرغم من أنَّها في مركب قطار يسير على سكة الزمن الدائري بين نقطتين لم تفارقها على مدى القصص.. فالمسافة المقدرة ذهنيًا ليست هي المسافة المكانية المقاسة بالأمتار والشخصيات ومحمولات الحقائب والقصائد والسرديات الذاتية القصيرة. أنها دنى، تلك الفتاة المتمردة على سياقات الألفة في الكتابة حيث أحداثها من تلك التي عاشتها أو تصورتها، فاكتنزت فيها محطاتها مدينة البصرة حتى لو ارتحلت عبر مدن العالم، تبقى البصرة كائنًا في أرضيًا يشد السرد، لذلك ما يشدها للسرد هو تلك الأمكنة المشحونة بالمسافة القلقة، المتولدة من مجموعة من مسافات وأمكنة طفولتها ونشأتها وعلاقاتها، وجامعتها وأفكارها، ومدونات دفاترها المدرسية، وكأن المدينة الأولى المدينة الرحمية كما يشير مايكل ريفاتير لمفهوم الجملة الرحمية في القصيدة، جملة ولاّدة لكل أعمالها، حتى تلك التي تستبطن العالم المتخيل المسفوح على الورقة البيضاء، والمرسوم بخطوط تصنع منها أشكالًا للطير وسفن الرحلات .
أنا بصدد الكشف عن رؤيتها التمثيلية للعالم، مبتعدًا عن ثيمة الشخصيات وأسمائها ورحلاتها، حيث أن دنى لا تؤلف رواية على أفعال الشخصيات، بل تؤلف شخصيات على نسق سرد الرواية، أي أنها تعتمد الكلام المسرود، وليس الكلام الحدث كما يفرق تودوروف بين سرد النوعين، ثيمة الكلام المسرود يعني استبطان الحكاية المنفتحة علىالأمكنة والزمن والتحولات، بينما ثيمة الكلام الحدث تقتصرعلى الإلمام بحدث ما والأكتفاء به. الفنية السردية المتخيلة التي تتبع مسارًا متعرجًا كي تصل إلى هدف ما، هو مسعى سرد دنى، لذلك يستبطن سردها بالشعر، ربما يكون السرد رواحًا وإيابا على جسد الحياة بين ضفتي شط العرب، أو بين مدينيتن في اوربا، او بين سوريا/اليمن /كوبنهاكن، العالم مطوي في الزمكان حيث الأنوثة واحدة من الثيمات المحركة للكلام المسرود، نعم، الأنوثة؛ هذا الطغيان الذي يشد الأبصار ويوّلد الذاكرة ويلقي بها إلى الجسد الغائب، الى ممالكها المتخيلة، هو ثيمة شهرزاد وهي تحكي ،فشهرزاد لا تتحدث عن قضايا، بل تسرد كلام الأحداث، وعلىالقارئ أن يستنتج ماهية الحكايات، فيكون السرد استجابة للمجهول ولغةحائك الكلام الكوني عمّا يمكن أن يكون ثيمة استعارية للمنح والعلاقة وبناء الذات.
" عربة تجرها أحصنة جامحة تنطلق بي في طريق داخل المنظر الطبيعي في اللوحة الضخمة حائلة اللون فوق رأسي، تسلك طريقًا ملتويًا وعرًا، صهّالةً بحوافر تنهب الأرض نهبًا، أحثّها بقلب ميت، أكثر أكثر لتأخذني نشوانة إلى بؤرة أقصى الدنيا" ص 79، لاتقص القصص يوم الأربعاء.
احصنة، جامحة، تنطلق، طريق ، منظر طبيعي، حائل اللون، طريقا ملتويا، خيول صهالة، حوافر تنهب، الحث على المسير، العبور لبؤرة أقصى" هذه مفردات حكاية وليست مفدرات حدث. وثيمة المنظر الطبيعي ربما هي من ثيم الماء، حيث البصرة تختزن كل حكايات الماء المروية، فالمسافة، ماء المد والجزر، ماء اللغة الذاتية واللغة الصور، حيث الماء نبعًا في الصور وفي الحياة، ونجدها واحدة من متعلقات السرد لدى محمود عبد الوهاب ومحمد خضير أيضًا، حيث الجدار المواجه لنافذة ما تشرق منها شمس الرحيل، لسائق لايأبه لمعانتها وهي تتأمل يديه المسترخيتين على المقود والنافذة، وتحت مقعدها ثمة مسدس يتقصد اعلانه، عالم صغير ضاج بحركة القمع ترسمه دنى خلال نبضات الرؤية بتكوينات شعرية لا يمكن أن تحملها كلمات أخرى لفيضها الداخلي، كي تنعكس على الورق، لذلك تكون كل قصصها القصيرة نثرية محملة بتيار الوعي الضاج بمحمولات الشعر، المتغرب عن سياقه الرمزي،. كانت الصور والمرآة قرينتين للأمل في السفر، هذه الثيمة الاستبطانية تكشف عن ثراء الخيال الذي يحول الصور إلى بنى سردية تتعلق بالرحيل، هنا، ومن داخل تكوينة المشهد نجد الشخصية بلا قدمين مستقرة على الأرض، بل خطوات وجلة في ثرى البصرة، كل البصرة الآن في حقيبة سفر صغيرة، ومعها جواز مختوم وصورة ومرآة.
الكثير من القصاصين يعتقدون أن القصة الحديثة قد نزعت ثوب الحكاية عنها، ولبست ثوبًا مدنيًا حديثًا، هذا وهم، فالحكاية متجذرة كما يقول ليوتار في كل انتاجنا المعرفي بما فيه الإقتصاد والسياسة والعولمة والأدب والعمل، والحياة اليومية، ولكن تمظهرها يختلف من ميدان إلى آخر، ومع ذلك، تبقى عنصرًا فاعلًا في السرد القصصي خاصة الرواية والقصة القصيرة، وفي أمكنة حديثة بما فيها أمكنة المدينة، وتحتوي على الشخصيات مهمتها أن تحكي كي لاتموت. كما يقول تودوروف. "لكي تتمكن الشخصيات من الحياة عليها أن تحكي" ص47. وتبقى معها الوظائف التي شخصها فلادمير بروب فيها ولو بدرجة أقل بكثير من وجودها في الحكاية. من بين الوظائف الملازمة لفن الكلام المسرود في القصة القصيرة: تلك التي ترتبط بالقالب الفني للقصة، وهي: وظائف التحرك، ووظائف التعاقد، وظائف التحرك ترتبط بالكيفية التي تواجه الشخصيات فيها الحدث، سواء أكان حدثها الشخصي أم الحدث المفروض عليها، أي اكتشاف الطرق لتوصيل الحدث كرسالة إلى قارئ مجهول. وهذا يعني حركة القالب الفني وفق منطق حركة الحدث، والوظائف الثانية ترتبط بالكيفية التي تواجه الشخصيات من قبل قوى مضادة لمنعها من تحقق أهدافها، ويعني ذلك أن قوى المنع غالبًا ما تخلق عوامل تعطيل اكتمال القالب الفني، كزرع عقبات في طريق البناء الفني كي لا يكتمل، فالشكل الفني يعاني هو الآخر من القوى الشريرة، وتمر الوظائف في سلسلة من الاختبارات، يشير تودوروف في شعرية النثر، إلى أن كل رواية أو قصة تحتوي على بنية بوليسية، أي ثمة حدث وثمة من يحقق في هذا الحدث،( مجرم ومحقق بوليس). حتى لو كان الحدث بين شخصيتين تشكلان أسرة واحدة. فالتحقيق يعني سعة الكلام المسرود، وتنوع الحوار والخطاب. نخلص من هذه الأطروحات أن: فن القصة القصيرة فن لعوب، يتشبه بالأنثى التي تتزين من أجل عشيقها، لكنها في جوهرها تبقى أنثى لا يتحقق وجودها إلا بالآخر، مهما كان الآخر، والآخر المبهم، الناقص ، هو الأكثررغبة للسرد من الآخر المكتمل، فتسعى إليه او يسعى أليها، لانشاء حكايتين تلتقيان في حدث واحد وتتكشف رؤاهما عن جوهريهما، وثمة رغبات تتجه لتحقق الهدف وأخرى تقف بالضد من ذلك، هذه الثيمة التي تشكل مونادا السرد القصصي حسب ما يشير ليبنتز لمفهوم المونادا، من أنه النواة الثيمة التي لا تتكرر ولكنها تؤسس لديمومة الفعل، نجد القصة القصيرة عبارة عن سلسلة من الجمل والعبارات المتقنة البناء تؤكد فاعلية النواة والاستهلال،
ولو أخذنا أية قصة من قصص دنى طالب في مجموعتها "لاتقصص القصص يوم الأربعاء" نجدها تنشد بناء الحكاية في حداثتها المكانية، أعني المدينة، مع ارتباط حميمي بتلك السجايا الشعبية التي بقيت كتقاليد وعادات هي من ثمرات سرد لحياة اليومية لا يمكن الخلاص منها. لأنَّها ترتبط بتركيب اللهجة الشعبية أي بالكلام المسرود وليس بلغة الحدث..