أصاب الجنون أقوال الحكومات العربية و هزلت  افعالهم ، في فترة انتشار الديمقراطية ، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، لانهم يتبعون ما يخرج ، سفاهاً ، من عقدة عقولهم او من عهدة خياشيمهم . لا يهمهم أسى الناس ، الباحثين عن الخبز و الحرية .

كانوا يريدون بقاء الرجال العرب (حميراً) بقافلتهم و بقاء النساء العربيات (نوقاً)  عاجزات .

كلهم ، رجالا و نساء ، يواجهون باب المستقبل ،المتطور، مغلقاً.

الفرح بحياتهم مغامرة،

و الحب عقيدة من عقائد الغلط  .

كما  ظلّت الحمائم  العصماء غيرَ مؤهلةٍ بزمانِ الطيرانِ الى اعلى أو الى امام. تظهر روحها بأضعف حال ،

 تنوح من ضربٍ منهالٍ على قفا الشعوب ورؤوسها .

أغتاظ الكثير من الشعراء و اصحاب الفكر و السياسة و القلم  من جماعة (علا و جلا) التابعة للحكومة و حزبها القائد ،  حين ناحتْ الحمائمُ  العصماءُ ،  في أرق الزمان  النوّابي و صعود استقرار حداثته ..  يستاء الإشراف من سموم بعض الناس على جميع الناس ، كما يستاك الناس على  الناس، ( بعضهم  ) العالي على  (كلّهم  ) المنخفض ،   مثلما   تُساك  الجِمال و النِعاج  و ترقّ عيون النوق الملحاء ، على اكتمال وزن  الأراك فيها على وفقِ أطوالِ  و أوزانِ  و بحورِ طبعِ  و اطباعِ راعي الشعر و عيونه ، ( الخليل الفراهيدي)

الايمان لا يباع في الاسواق ..

الإيمان أمانة  في الاعناق.

الايمان بعيدٌ جداً، عن قبضة المستبد وعن سفسطة فلاسفة أديان القبائل واحلامها.  

الايمان قريبٌ جداً،  من تشاكل الناس الفقراء وارزاقهم و رجولتهم و حريتهم ، حتى يبلغ رُقيّ المدنيةِ و الحضارة .

هذا هو تمام الاعتقاد في ذهنية الشاعر مظفر النواب عن جميع أخلاق  الناس ،المؤمنين و غير المؤمنين ، بوجود ثلاثةِ نماذجٍ من الناس :

الاول ناس فضلاء .

الثاني ناس من السافلين .

الثالث هم ناس من الصنف الوسط بين الفضيلة و السفالة.

هي طبقة من المستحيل معرفة تصنيفها الاخلاقي. من المستحيل ان يكون مظفر النواب قادراً على ضبط مكانته الشعرية إلّا مع الصنف الاول .   

الإيمان ليس فقط إظهار الخضوع للشريعة الدينية و القبول بما قاله (الله) في (كتاباته السماوية)، النازلةِ بنحوِها و صرفِها  و آياتها من السماء السابعة   ، في صفحات  التوراة و الإنجيل و القرآن، بطريقةِ الهيمنة المقدسة، أي بسيطرة  المهيمن الإلهي. الحاكم فيها يسيطر على المحكوم  ،   بما جاء به ثلاثة أنبياء موسى و عيسى ومحمد ، من بين آلاف الأنبياء و المرسلين . يدّعي  صدق إيمانه بـ(أفعالهِ) ووجوبِ فرائضهِ  .. يلّوّح  و يلّمح  بمعجزاتٍ شيقةٍ او طريفةً او بفذلكةٍ لغويةٍ ، لا تُغلق أبواب  عودةِ الجاهلية او  رجوع سيادة شريعة الغاب ، نحو أعماق دولة عراقية ( طائفية) او دولة (دينية) في بلاد فارس ،  يفتل  شاربها و يطيل  لحيتها تحت عمامةٍ بيضاءَ او سوداءَ، يبتكر بتسبيح  مسبحتها دعاوى و فتاوى (الدولة العميقة)،  ذات القوة  المخادعة،  المتقلدة سلاحاً،  لا يخضع لقانونٍ او دستورٍ.. ينسى أو يتناسى أن  من كان على صفات علي بن أبي طالب فهو مؤمن متمكّن إذا امسك بنهج البلاغة   .. و أن  من اتصّف بعدالةِ عمر بن الخطاب فهو مؤمن يحتاج الى براهين ..  و من سار على طريقة ابي ذَر الغفاري فهو مؤمن يحتاج إلى شطارة    و من تحمّل عذاباً  ، من دونِ خنوعٍ ، على نهج عمار بن ياسر فهو مؤمن تنقصه الإشادة  بمساواة الطبيعة  .

لم يكن بأشعار مظفر النواب أبياتٌ مرتابةٌ بالله و مشككة بوجودهِ ، لكن فيها أبياتاً تدخل الريبة و الشكوك الى صدور السامعين و القرّاء ، حول أهل  دين و ديانة ، طامعين بالحكم و السيطرة و كسب المال و المنافع من وراء الادّعاء  بالإيمان.

في اشعار مظفر النواب ينفصل الإيمان ، انفصالاً واضحاً، عن سلوكية  اللصوص و الحرامية  و سفاكي الدماء و منتهكي حرمات الأمانة .

في عهدة مبادئ مظفر النواب ان المؤمن وخائن الوعد لا يستويان . كما أنّ خيانة القلب الصادق هي صنف من أصناف العدوان على الله و على الجهادِ، بنفسهِ و مالهِ ومآلهِ

كثيراً ما جرى نقاش بين الشيوعيين و المؤمنين ، المسلمين و الإسلاميين ، عما اذا كان شاعر الريل و حمد كافراً ، مشمولاً هو و قصائده الشعرية  بالكفر و الإلحاد ، استناداً الى باطنِ ما جاء بفتوى المرجع الشيعي السيد محسن الحكيم في مدينة النجف.

بعض الناس  من المضطجعين داخل ملابس الحرس القومي  ، في شباط عام 1963 ، من الجاهلين المسلحين ، صدّقوا بقلوبهِم العمياء  ، ان من (الإيمان) و ( الشرع)  ان يتمّ شمول  الشاعر الشيوعي الكظماوي  (مظفر النواب) بهذه الفتوى. كان هؤلاء من صنف المنافقين في داخل حزب البعث العربي الاشتراكي. معهم مَنْ هم ليسوا منافقين فحسب ، بل هم من الجهلة، القتلة ،  و أكثرهم من آفات البدع المناهضة لحرية الأدب و الشعراء ، كما اخبرني  ، عنهم، الصديق، الصادق  ، الكاتب البعثي ، ذو النوايا الحسنة ( حميد المطبعي) بعد ٤٠ عاماً من الفتوى الحكيمية.  قال لي ما معناه : كنّا مسرورين جداً بتلك الفتوى و بكل ما قيل عن الشيوعي مظفر النواب وعن أصحابه المناضلين  بمدركاتٍ واعيةٍ ، محسوسة .

نعم ان كل ما قيل هو من باب الحقد على الشيوعية و من المنافقين في صفوف الحملة العالمية المضادة للشيوعية ، التي كان البعثيون جزءاً منها .

كان  حميد المطبعي مؤمناً باللهِ و كتابهِ ، لكنه ليس غاضباً على غيره من غير المؤمنين. صحيح انه كان بعثياً ، لكنه لم يهجر الخير و الأفكار الخيّرة  . لم يرتكب سوءاً بعد فتوى محسن الحكيم ، كما فعل اخرون من البعثيين ، من الذين اصدروا او أيدوا أجاج الحقد و البغضاء، بقتل الشيوعيين ، تنفيذاً لبيان رقم ١٣ ، الصادر من حكومة البعث الوثنية - الانقلابية  في  ٨ شباط عام ١٩٦٣.  

ذات مرة ، عام ١٩٩٢ كنت مدعواً مع صديقي الشيوعي الدكتور هشام البعاج من قبل حميد المطبعي الى دعوةِ شرابٍ ، كحولية ، يعقبها تناول وجبة عشاءٍ بصومعتهِ المنعزلة بدارهِ في حي الاعلام . كان حاضراً الدعوة ، الدكتور احمد عبد المجيد رئيس التحرير الحالي لجريدة الزمان - الطبعة البغدادية . كان قد جرى نقاش طويل ، تلك الليلة الشتائية ، حول تباعد الشيوعية العراقية و تناقضها مع اشتراكية حزب البعث. ثم صار ترتيب النقاش حول اشعار قصائد الشاعر مظفر النواب كان فيها تحصيل حاصل هذين البعثيين هو التقلب بتاريخ مظفر النواب و مذهبه السياسي، الشيوعي ، بكثيرٍ من طِباع حميد المطبعي و احمد عبد المجيد و بسريانِ افكارهما لفسح المجال أمام البقاء الشعري،  النوّابي،  الأصلح .  استمر النقاش حاداً لساعات طويلة زاد فيها التباعد بين الطرفين ، إذ كان فيها صديقي و رفيقي  (الدكتور هشام البعاج)  يؤطّر خواطره بهجومٍ ،  بنوع ٍ من الحمّى اللفظية،  الحادة،  ، للرئيس الدكتاتور صدام حسين و لبعض الوزراء ، خصوصاً وزير التعليم العالي. زاد النقاش بعداً و ابتعاداً بيننا ، نحن الفريقين، عند انتهاء الوليمة المطبعية ،  بساعةٍ متأخرةٍ من تلك الليلة .    تحدثنا، خلالها،  نحن الأربعة  ،  بوقارٍ وإيجابٍ عن مظفر  النواب . خرجنا ، انا و هشام،   متوترين، قلقين ،  خائفين ، لا من منكرات قادة أفكار امريكية  معادية للشيوعية من مثل كل من روتشيلد و روكفلر و تلميذهما السناتور جوزيف  مكارثي بين عامي 1948 و 1949  ،  بل من  ثقل و كسرات النقاش مع اثنين من البعثيين العراقيين

في صباح اليوم التالي استعجلتُ الالتقاء مع صديقي حميد المطبعي ، لحثهِ على ضرورةِ نسيانِ طبولِ الليلة الفائتة وعلاماتها الخلافية ، السلبية، بين مجموعتينا،  بقصد محاولة إغلاق باب الكسرة الحوارية في ليلة ليلاء ،   وعدم السماح لأية فتحة بينية ،  لوصول ما تدحرج من أقوال الشيوعي هشام البعاج  عن  (منزلة)  الرئيس ، الدكتاتور، صدام حسين  و عن بعض وزرائه المسطورين  . ضحكَ المطبعي مؤكداً : ان شيئاً من الضرر لن يلحق بكما ، لا مني و لا من صديقي البعثي احمد عبد المجيد.  

أكّد لي ان هذا الانسان ، رجل أمين  ، مثلي، على لغة الحوار ، لا يضمر عداءً للشيوعية ولا للشيوعيين و لا للشاعر مظفر النواب . كما ان البعثي احمد عبد المجيد رجل من  نوع الثقة ، يستحق التزكية

صَدَقَ قوله و صَدَقتْ تزكيته  . ظل احمد عبد المجيد   ، نجيباً، أميناً على اسرار الحوار . رغم ان الكثير ، الكثير، من أصحابهِ و قياداتِ حزبه  الحاكم ،  كانوا يعتبرون  التجسس للأجهزة الأمنية البعثية وإبلاغها بالمعطى الطبيعي،  عمّا يدور بمناقشتها مع المواطنين الآخرين،  صوتاً من ذوي الأصول الضرورية للإسهام في صيانة  نظامهم الدكتاتوري الغاشم. قدّمتُ  الشكر،  بعد زوال قلقي من حوار تلك الليلة ،  حين مارس الصديقان حميد المطبعي و احمد عبد المجيد حريتها الشخصية في خروجهما على (القبلية البعثية  ) ، التي تعتبر الشيوعية و مظفر النواب ، من (الكافرين)  ،  حسب ما انزله المرجع الشيعي محسن الحكيم، من تفوّهات ليست دينية ، بل من اشتقاقات الخضوع لضغط السياسة ، الاستعمارية - الرجعية ،  بذلك الزمن ، مثلما  بعض الجاهلين  يؤمنون او يظنون ان في الدنيا العربية  يوجد : (نهران مؤمنين).. و (نهران كأفرين) ) .. النهران المؤمنان هما (النيل ) و (الفرات). .. النهران الكافران  هما (دجلة )و (الحسينية )، حيث الشيوعية و مظفر النواب يسقيان، منهما،  حرثهما.  كان من مصادفات الزمان و المكان ان صدور (الفتوى )  و نشر ( القصيدة النوابية ) كانتا بموعدٍ متقاربٍ في وصولهما الى الناس العراقيين  . لكن لا منادمة بينهما .

ظلّ الشاعر مظفر النواب  مرتدياً صوفاً خشناً ، متعلقاً  بسلوكِ متصوفةِ بغداد ،  من دون ترددٍ ، و من دون أية محاولةٍ في التدهين و الأدهان ، من دون  سترِ الغمّ و الغضب عن الحكام العراقيين و جميع الحكام العرب . ظلّ شعره ، كله،   يفزفز القلة من القاعدين على عروش عراقية او عربية ، منسوبين الى الدين او القومية ،  منذ انسيابية قصيدة الريل و حمد و ما بعدها (قصيدة صويحب) و (اشعار سعدون) ، المنسوبين، كليهما،  الى الشيوعية.

 ظلّ مظفر النواب ، كما شاهدته و التقيته ، بمناسبات عديدة ، في ظلِّ ظروفٍ،  كثيرة التعقيد  ، غيوراً ، جاداً ، مبهراً ، مبهجاً ، بكلِ قصيدهِ او بكلِ مكالمةٍ تلفونيةٍ،  حين أكون فيها ( حراً) بالتزام محدود في فترة من فترات وجودي ، في عمان - الاْردن او غيرها من مدنٍ تحدثُ، فيها ، مواقف حرة من دون ممارسة القوة الغاشمة على مواطنيها ، كما جرى في مذابح انتفاضة عام ١٩٩١ و ما بعدها ، عندما  انتبه العالم ، كله، الى (الموت الاستبدادي ) ، الجاري في عراق صدام حسين.     لم تكف ، عندها، عمليات قتل المواطنين العراقيين ، باستعمال  جميع تكتيكات  تعذيبهم و تدميرهم  ، باسم العناية الربانية ، الدينية ، بشراكةِ احكامِ الإعدام و القتل ، أي بشراكةِ فتوى محسن الحكيم و بالسلطة المفروزة بالتقمص الدكتاتوري البغيض و بتوظيف الفتاوى الدينية  ، على وفقِ مفاهيمَ  متاحةٍ من دكتاتوريةِ صدام حسين وتعسفهِ.  

اعلمنا  مظفر النواب و اعلم جميع قرائهِ،  بقصائد أشعارهِ (حباً ) مخالفاً لكراهيةِ (الفتوى ) .. أعلمنا خصلةً إنسانيةً ، حميدةً،  هي ان طاعة الحبيب للمحبوب،  ليست شبيهة لطاعة المحكوم للحاكم .

الخصلة الاولى تنبع من (الحب ) .

بينما الخصلة الثانية تنبع ، بالغالب الاعم، من ( الخوف).

 تنتهي الخصلة الاولى بحقيقة الفراق بين حبيب و حبيبته ، حسبما جاء بقصيدة (الريل و حمد) في حين لا تنتهي الثانية مع نهايةِ قتلِ المحبِ لوطنهِ و شعبهِ ، كما الحال في البطش بجمال ( صويحب) وحسن صورته و مثاله .

في  الحالة الاولى ينفعل الشاعر و يتفاعل مع المتأوّه ، المتألم. بينما في الثانية سكون الرأي على الوعد بالخلود .. حتى لو حلّت مساءلة  الاقطاعيين بقتل صويحب ، لأن  صولَ الشعرِ يعود منتصراً :( لا تفرح بدمنه لا يلكطاعي .. صويحب من يموت المنجل يداعي).. انها حالة من حالات الثقة المطلقة بالشعب و بتباشير المنجل..!  

ما اعظم رسم التحريك الفلاحي ، الثوري ، بأصل آلة الثورة الفلاحية الباطنية ، المتموضعة بــ(المنجل) ، حيث (اللازمة المأثورة) ، المتكررة بأثرٍ عظيمٍ من آثار العمر الفلاحي الممدود بقانون  ( الإصلاح الزراعي) و علاماتٍ سنّتها ثورة ١٤ تموز،  بتكريم يد الفلاحين و تمليكهم أرضاً يزرعونها بعرق جباههم. كانت اللازمة المظفرية ، المنجلية، تمريناً موحداً بين ( القائل) و ( السامع) ، بين (الشاعر) و ( المتلقي) ، بين ( الشيوعي)  و ( الفلاح) ، مثلما كانت اللازمة الشعرية ، الوسمية ، بنيت بقول قصيدة الريل على هبةِ  ، واثبٍ، وثّابٍ : هودر هواهم و لك حدر السنابل كطا..

لا يقلق مظفر النواب من الفزع ولا يعقبه انبساط  كفرٍ  و لا ضوء سكونٍ ولا  ضربة استسلامٍ . يظل التأويل بمواصلة البشاشة و طلاقة الوجه لمخالطة بشاشة قلوب محبي اشعاره بعد ان رأوْا جمال تباشير و تكرار اللازمة الشعرية : ( هودر هواهم ولَك حدر السنابل كطا).

هكذا ظل مظفر النواب ، حجة على نفسه و على شعره  اللاحق ، من رجال البش و البشاشة  و هو من ذوي الثقة المطلقة بطيبة الأهل و النفس..  يحاذر من سرائر الخوفِ على الجماهيرِ ، الباصرةِ ، البصيرة. وبقيت الجماهير ، نفسها، شهوداً يشهدون عليه و على قصائده الشعرية ، كلها

////////////

يتبع

عرض مقالات: