عانيتُ ،كثيراً،  من السؤال مع نفسي،  عن موقف الفريسة الملحمية الشعرية النوّابية، بمتواليات شعرية ٍعميقةٍ ، مرسومة بعاطفة الشاعر مظفر  النواب،  عن عواطف (الحبيبة) ،الصامتة في قطار الليل. ثم أوقفتُ سؤال نفسي من نفسي لأن السؤال يظل ، في هذه الحالة، مجرد  التماسِ جوابٍ، بلا حقيقةٍ ثابتةٍ، حين وجدتُ ان الواقع و الحياة ،مليئين  بالعطاء امام الجميع.

إذاً، لا بدّ من التوقف عن العجلة في المعرفة.   بدل شجاعة التقصي،  ذهبتُ الى مغامرة ٍ، لا مفرّ منها،  هي انتظار المستقبل ، حين يفتح تاريخ  مصادفة الشاعر باختلاطِ ذخيرة الشعور الغريب بالقلب الغريب،  داخل عربة قطار مشترك ،  تتذكر فيه امرأة  ولّادة لعواطفٍ ابتلّتْ جوانحها بدموعٍ ، عند المرور   في ام شامات .. ربما جفّت مآقي الحبيبة ، نفسها ، من زقّوم عشقها،  لكن عيني الشاعر كشفتْ و اكتشفتْ كوثرها و غسيلها بمغلقاتِ  تكويناتِ نعمةٍ شعريةٍ نوّابية .

 مَنْ يفتحها..؟   من يستطيع ان  يتعرّف على أسبابِ لهبِ (الشعلة الشعرية) ،  التي فيها و منها يحسّ القرّاء ببردِ العاشق عن فراغ المعشوق و صراع احتراقه في أمرأة الريل و حمد..؟  من اين جاءت سعادة مظفر النواب في سطوع القصيدة ونزعتها العاطفية ، بينما تتجاذب هموم طرف واحد من اطراف العشق، من خلال نظرة واحدة من امرأة العشق الى مكان العشق ،  الى ام شامات ..؟ لقد  اكتشف الشاعر لوعتها ، بعينيه و احاسيس قلبه، من دون ان يشهد بقصيدته ، شيئاً ، عن آثار قتالها و مقتلها،  إلّا بسفرةٍ قطاريةٍ،  ليليةٍ،  واحدةٍ.   كان  يرى بقهرهِ ، قهرَها ، من ازمة العشق الباقية في عينيها و قلبها .. تحركها رقّة الغزل المرذول عن الهيل المشموم و عن القهوة المدكَوكَة و عن كبح عاطفة ام شامات ،من دون امل في نمو رجاء او سلام او انتصار تحققه العشيقة على العشق و على العاشق في زمان الخيبة و الانسحاق.

البحث عن الوجود المتحرك داخل قلب العاشقة المعشوقة ، أمر شعري او شاعري ، بغاية الصعوبة و الشقاء ، حتى انه بجميع علامات الأزمنة التاريخية،  اصعب كثيرا من رؤية التاريخ الحديث يقوم بتحويل مدينة القدس العربية  الى اورشليم الصهيونية.  انه احتراق ما فوق الطبيعة في المنعطفات الإنسانية بذلك الزمان ..  انه الاحتراق ، الشعري ،الداخلي ، في عمليات كشف عاطفة العاشقة، الخفية عن الأنظار في قلبِ عاشقةٍ معشوقة . هكذا كانت صحبة الشاعر النواب لمن وقع في الهوى ،  قاتلاً او مقتولاً.

لكن ناتج اليقين المكتشف من شعر الشاعر مظفر النواب هو العجز  العاطفي المؤلم و الأسف على اللوعة العشقية . لوعة عشقية  غير مشفية، في مدارك الريل،  ممتزجة مع مدارك هوى امرأة صغُرت إرادتها، حين مرّت  بقطارٍ سريعٍ على سكةٍ ليس فيها دخانَ نارٍ يراه مظفر النواب .   فيه التهاب شوقٍ خامدٍ رأته عينا مظفر النواب.  أقول بتأكيدٍ وانا ،هنا،  أرى نفسي ملتزماً بالترتيب و التعقيب أن  مظفر النواب يمتلك عينين ، فحلتين، جزلتين ،مؤدبتين، بإمكانهما استيعاب ما يراه  مرسوماً بذهنه الخلاق. لا يمكنك رؤية عينين شعريتين ، شبيهتين لهما ، منذ أيام الشعراء ، العرب،  البارزين،  القدامى و الجدد.  له حظٌ في عينين استحوذتا على شعرهِ بدءاً من قصيدة الريل و حمد وليس انتهاءً بقصائده الشفيقة الحنينة على (قدس العروبة) المنهوبة .  نعم يملك عينين وهبتا إياه رقة الشعر الشعبي وفصاحة الشعر الحديث . عينان  نوّابيتان، كظماويتان بالحزن الكبير ،  ليس هناك ابرع منهما ، حين شبّب في قصيدة الريل و حمد غُمّة الحبيبة،  التي ما هدأتْ ثائرتها المخفية  عندما مرّ القطار بقرية العشق ، ام شامات.      

لا بدّ لي ، هنا، من التسلسل الى دقّةِ التقصي في عيني مظفر النواب ، التي ليست ، ندرتهما، خافية على احد من معارفه و أصحابه .  عينان في وجهِ قامةٍ بارزةٍ، فيهما (موقف) و (قدرة) على صياغة نظرة في الموقف.  فيهما مرسوم تطلع الآمال المعقودة على مُثل النضال العام ومضمونه الاجتماعي – السياسي.   لا تنطوي ذاكرته ولا تنتهي بصفحةٍ ما ، ولا  بأيةِ صفحةٍ من صفحات قراءاته او حواراته،  لمعرفة جميع الحيويات الإنسانية ، المختفية في أعماق الانسان بمراحل الحب و ضياعه او بمراحل السلم و الحرب او بمراحل القلق الواقع و المحتمل.  لا يخاصم معتقدات احد في شرعة المعرفة و الحب لأن في اعماقه إحساساً ، انسانياً ، واعٍ،   مؤمناً ان حرية السجناء و تحررهم من قيودهم هو أمر  آت ، لا محالة ،  لأنه من نوعِ أمورٍ  يصنعها قلب طيب و عقل طيب و يدين طيبتين.. انه من ممكنات الناس المسجونين في (النقرة) او الجماعات المسجونين بالمجتمع العراقي، الكبير ،  الأسير بكامله تحت القبضة البوليسية الشمولية..  انه نهج المجموع الإنساني الهادف الى غايةٍ عظمى ستتحقق، حتماً،  و لو بعد حين طويل،  حسب العوامل التاريخية و السياسية المؤدية الى حرية الانسان العراقي .  كانت العينان المظفريتان توقظان عواطف المحبة بين نفوس جميع الناس في (النقرة) حين كانت قصيدة الريل تردد ، بين بيتٍ و بيت ، صفاء الصورة الواضحة بكلمات : (هودر هواهم ولك حدر السنابل كطا) .  انها كلمات هادئة تنقذ السامعين من التيه و العبث .صار صداها بالقصائد الشعرية المظفرية اللاحقة،  تقسيماً فنياً و سيكولوجياً جديراً بنغمات قصائده الشعبية ،كلها .

 التسلسل بالحديث يدفعني الى تذكارٍ معينٍ  عن عاطفةٍ نوعيةٍ في العلاقة بين مظفر النواب و صديقه،  منذ الطفولة الكظماوية،  الشاعر،  المحامي هاشم صاحب . هذه العاطفة اهتزّتْ ،ذات يوم ، عندما كان الصديقان سجينين في سجن واحد ، في (نقرة) بغيضة واحدة.  قضية واحدة نزفتْ بينهما ،ذات يوم من أيام النقرة، حيث لا حماية من حمايات الكمال في الجدل  تصون معايير الصداقة الاخوية القوية بين رجلين، ليس بينهما اية خصومة على الاطلاق ..  يتمسكان بنفس القيم الإنسانية ويتأهبان، معاً،  لبناءِ وطنٍ حرٍ واحد، ليس بينهما اية خصومة إنسانية، على الاطلاق.

خلاصة القول عما حدث بين الصديقين كان امتثالا اعمى لظنٍ من ظنونِ انطباعية الشاعر هاشم صاحب  تتعلق بغريزة شعرية ، كلامية ، مظفرية  النوع . فقد كانت احدى مواهب مظفر النواب، و هي كثيرة،  ان حصته الوافية بامتلاك عينين وثابتين نافذتين الى أعماق الوجوه و القلوب الأخرى ،مما جعله ممتلكاً آهات فنٍ من فنون  رسم الوجوه ، البورتريهات.  كان من فضائله في المناسبات و الأعياد ان يرسم معايدات لأصحابه و أصدقائه او لكل من يطلب منه من السجناء السلمانيين.

بمناسبة أعياد راس السنة عام 1965 أراد هاشم صاحب ان يهنئ زوجته البغدادية الجميلة جداً.  طمع بطلبٍ الى صديقه مظفر النواب ، كي يصمم و يرسم (معايدة) ، يرسلها الى زوجته من سجن  (النقرة).   بعد يوم او يومين كان جهد الرسام مظفر النواب قد صدق برسمه حين اوجد معايدة فيها رسم السجين النقراوي ، المتطلع الى زوجته البعيدة ، جازماً ان اللقاء الحتمي بين الزوجين، سيتمّ قريباً. تخيّر الرسام مظفر وجهاً شبيهاً الى حد كبير بوجه الزوجة ، التي ما كان رآها غير مرة واحدة،  لمدة لا تزيد عن بضع دقائق في ظلمة (النقرة) عندما جاءت لزيارة و مواجهة زوجها .  تنبأ النواب ان لجة السجن الصحراوي البغيض لن تستمر ، فقد أشار ببطاقة المعايدة الى حتمية طلوع النور،  بلقاء قريب،  اقتبس معناه من امال الفلاسفة الاقدمين و المحدثين.

مضت أيام ،قليلة، خرساء ، حتى نطقتْ السلطات الحكومية بإطلاق سراح عدد من المعتقلين  السياسيين، كان احدهم هاشم صاحب.

كان مظفر النواب قادراً ، بهذا المثال،  على التعبير عن نزعته العقلية التصويرية ، المسيطرة على بعض امزجته غير الفاقدة  لتلقائيته الشعرية ، حين انهى (بطاقة المعايدة) بكتابة جملة معبرة ببلاغةٍ لفظيةٍ شعريةٍ متأججة بلهيبِ الحس الإنساني  بين السجناء و المعتقلين بالنقرة و عائلاتهم المحاصرة بمعضلات وانفعالات حصارٍ عموميٍ  ،  بعيدٍ و قاس.  الشعب العراقي ، جميعاً، ينتظرون رتابة  اطلاق محركاتِ حياةِ قابعين برتابة النقرة و مظلام العيش فيها .

بهذا المثال النموذجي المظفري، البسيط ، يمكن تلمس قوة و براعة الشاعر – الرسام مظفر النواب،  المتطلع الى انسان ارقى في عالمٍ فاضلٍ، عالمٍ يعلن عن نفسه بمفردات  (اللازمة الشعرية) ، المتكررة في قصيدة الريل، حيث عبّر فيها مظفر النواب ، بالشعر و الرسم ، معنىً متحركاً ، بالثقة الجماهيرية و بجمال و جميل القيم النفسية الإنسانية العميقة  من دون الحاجة الى الاحتشاد غير الواعي في التركيز على رؤية ذاتية باطنية .  

لو كان الكاتب الروسي دستويفسكي او الشاعر السوفييتي مايكوفسكي يعيشان  ،معنا ، بنقرة السلمان، لكانا من المنصرفين الى الدفاع، عن عمق واقعية الإنسانية في المواهب الفنية المظفرية لا لشيء سوى انه شاعر شعبي فذ أتيح له،  كما لغيرهِ من شعراء عظام،  إمكانية التعبير في الرسم الشعري او في الشعر المرسوم او يطوف من الشعر الى الرسم او من الرسم الى الشعر  .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ 

يتبع

عرض مقالات: