في العام 1975 شرّع (مجلس قيادة الثورة) المنحل (قانون سلامة اللغة العربية)، وبموجبه منع تقديم أو تداول أو نشر الشعر الشعبي العراقي عبر وسائل الأعلام كافة، المقروءة والمسموعة والمرئية، بما في ذلك طبعه أو أقامة المهرجانات له. وسمح بعد نشر ذلك القانون وبشكل غير معلن بقراءة بعض أنواع الشعر الشعبي الذي ينتهي بالأهازيج (الهوسات) على هامش الاحتفالات والمؤتمرات الرسمية وغير الرسمية.

وجاء القانون كرد فعل على انتشار القصيدة الشعبية (المعارضة) الحديثة، ذات المضامين الثورية والإنسانية التقدمية بين أوساط القراء في المدن، على أنقاض القصيدة الشعبية باشكالها القديمة وأوزانها التقليدية الشائعة على المستوى العشائري والريفي. وهي القصيدة الريفية التي لم تكن تتداول في المدينة إلا نادرا أو على حوافها. وكانت مهمة ذلك القانون منع تداول شعر مظفر النواب تحديدا بعد طبع ديوانه المعروف (الريل وحمد) في نهاية الستينات في بيروت، وتوزيعه في العراق بشكل واسع آنذاك.

وقبل كل ذلك تسربت قصائد الشاعر النواب من سجن الحلة قبل هروبه الشهير منه وبعد ذلك، وتداولها عدد كبير من المثقفين العراقيين وأصدقائهم بشكل عام، وخاصة في المنطقة الوسطى والجنوبية من العراق. ومن ثم انتشار هذا النوع الجديد من الشعر الشعبي (المدني) في ذلك الوسط من المثقفين، متمثلا في شعر كل من شاكر السماوي وعلي الشباني وطارق ياسين وعزيز السماوي ورياض النعماني وأبو سرحان وآخرين غيرهم. على أنه أصبح الآن شعر مدينة حصرا. كما طبع ووزع العديد من المجاميع الشعرية لأولئك الشعراء فيما بعد.

 لذا قرر (مجلس قيادة الثورة) منع تداول هذا النوع من الشعر الشعبي بذريعة الحرص على "سلامة اللغة العربية" التي لم يكن يجيدها معظم أعضاء ذلك (المجلس) لا قراءة ولا كتابة...!!

ولكن في الوقت نفسه بدأ يظهر على الساحة العامية، وفي المدينة أيضا، وبغداد حصرا، في ضوء ذلك الهامش المسموح به عمدا من قبل السلطة السياسية القائمة، والذي أشرنا أليه آنفا، نوع من الشعر الشعبي (الجديد) أيضا، يتغنى بمنجزات (الثورة وقيادتها الحكيمة).  فرفع الحظر عن هذا النوع من الشعر الشعبي تدريجيا وبشكل غير معلن، أي غير قانوني، بدءا بمهرجانات (الاتحاد الوطني لطلبة العراق) الشائعة آنذاك، واستضافتهم لأنواع الشعراء الشعبيين، ثم احتفالات (الحزب) المختلفة بمناسباته العديدة وحروبه و(انتصاراته) فيما بعد، وكذلك على أشرطة الكاسيت في محلات (باعة الشربت) تحديدا في ذلك الوقت... وهكذا ساد هذا النوع من الشعر الشعبي (السياسي) على الساحة الثقافية بشكل عام وبدون منازع حتى السقوط في 9 / 4 / 2003 .

وقد وصل أولئك الشعراء الى مكتب (السيد الرئيس) بسهولة، وقبل ذلك عندما كان (السيد النائب) بعد أن تغنوا بـ "خصاله الثورية وشهامته ورجولته" الزائدة عن اللزوم...! كذلك تكاثر هؤلاء الشعراء وتناسخوا بشكل سريع ومريع مع ازدياد عدد المهرجانات الرسمية المقامة لهذا الشعر بمناسبة وبغير مناسبة، وطرديا مع المنح والمكرمات والذهب والمسدسات التي كانت تمنح لهم! كما تعددت وتناسخت القصائد (العصماء) وتوالدت، صار القسم الأعظم منها شائعا متكررا عند الجميع بتكرار القسم : ( شيلة أمي وعصابة جدتي ودشداشة أختي وجرغد عمتي ) الحمد لله لم يصل ذلك اليمين الى ملابس تلك النسوة الداخلية! دع عنك ألفاظ من مثل أبو الشيمة وأبو الغيرة وأبو العزة والعزيمة وما الى ذلك من صفات فحولية يضفونها على شخص (السيد الرئيس) وهي مما يفتقرون اليه جميعا!

ثم لتنهال العطايا والمكرمات السخية والهدايا غالية الثمن بدون حساب.. على أولئك "الشعراء" من لدن (القيادة السياسية للحزب والثورة) إلى حد الإغراق والإسفاف. أو إلى الحد الذي يتجرأ فيه أحد الشعراء الشعبيين وهو المقرب من (السيد الرئيس) ويطلب من (سيادة المحافظ) في أحدى المحافظات الصغيرة بعد أن استهان بهديته التي ينوي ذلك المحافظ أن يقدمها لهم، هو وزملاؤه بعد أن تغنوا وهوّسوا لسيدهم (القائد الفذ الضرورة) بأن يطلب ذلك الشاعر من (السيد المحافظ) أن يستبدل الساعات تلك بهدايا أخرى (لأن الساعات صارت كثيرة لديهم وما عادوا يعرفون هذه الساعة لمن تعود من تلك الأخرى!!) كما أن هدايا (القائد) ومكرماته تجاوزت تلك الخردوات الى قطع الذهب الثقيلة الوزن والمسدسات والبنادق والسيارات والملايين من الدنانير العراقية ! في الوقت نفسه كانت غالبية كبيرة من الشعب العراقي تعيش تحت الخطوط الحمراء من الفاقة والفقر والعوز المضني وخاصة في سنوات النظام الأخيرة.

وازاء سعة هذه الظاهرة تحتم ظهور نوع من الوسطاء أو المكاتب التي تختص بإيصال هذا الشاعر أو ذاك وتقديمه الى القصر مقابل عمولة تمثل جزءا من الهدية ربما تصل الى النصف! وغالبا ما يكون أولئك الوسطاء من أفراد حماية (السيد الرئيس) نفسه أو المقربين منه أو منهم! كما أن هناك من هو متخصص بكتابة أي قصيدة تريد! وحسب الطلب وبأي مناسبة كانت...!! لغرض الوصول الى حضرة (السيد الرئيس) فهناك أصحاب الحاجات أو من ذوي المعتقلين عشوائيا، ممن يرغب بعضهم بعرض مشكلته على (السيد الرئيس) شخصيا، وليكحل ذلك العرض بقصيدة شعبية!

وتنوعت فئات أولئك الشعراء، فهذه فئة جديدة من الشعراء الشعبيين تتمثل في عدد من كبار ضباط الجيش العراقي، أخذت تكتب الشعر الشعبي لتنشده في حضرة الرئيس! وكذلك شيوخ العشائر والقبائل الجدد، الذين أخذ بعضهم يكتب هذا النوع من القصائد العصماء إضافة الى وظيفته كشيخ عشيرة أو فخذ! كما أن هناك بعض من الشعراء المحدثين في الشعر العراقي المعاصر ممن ترك بصماته على القصيدة الحديثة، تهافت هو الآخر على كتابة الأغاني التي تمجد (السيد الرئيس القائد) وتتغنى بطول عمره الذي أرهقنا وقصر في أعمارنا!

وهكذا تدافع (شعراء الشعب) كما أسماهم ( الرئيس ) نفسه رجالا ونساء بمناكبهم للوصول الى حضرته البهية والمثول بين يديه! لا بل انتشى القائد في أحد المرات تحت سيل الأكاذيب تلك وقال عنهم ( ذوله بس ربعي ) لأن أحد هؤلاء الكذابين من الشعراء قال مرة امامه ( أشم فيك رائحة نبيّ )! كما ظهر التنافس والحسد والمكائد بين أولئك الشعراء للفوز بالغنيمة الدسمة،  وشكلوا منظماتهم المهنية ومقراتهم العلنية أسوة بالمنظمات البوليسية الأخرى، ليؤجروها في ما بعد صالات للعب القمار والبليارد...!

واستمر تاريخ الشعر الشعبي العراقي على ذلك المستوى... ولغاية سقوط تماثيل هبل.. إذ أنكفأ بعدها بعضهم على نفسه خجلا منها، أو من الآخرين في بيته، ولكن لفترة قصيرة، ثم خرج الى العلن ليعلن معارضته للنظام السابق!! كما أن هناك من غيّر في بعض مفردات أسمه بالحذف أو بالإضافة تماشيا مع المرحلة الديمقراطية.. الطائفية الجديدة.. فتحول الى شاعر جديد للمرحلة الراهنة باسم (خادم أهل البيت) وأهل البيت منه براء! وفجأة تغنى أولئك بأمجاد رموز دينية قديمة، وأخرى جديدة معلنة حديثا، لا بل أن أحدهم سارع لشتم صدام حسين بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهو الذي ما زال يأكل من مكارم سيده السابقة التي لم تنفد بعد من كيسه. كما أننا ندرك جيدا الأهداف والغايات ( المهنية النبيلة ) التي دفعت بالبعض من ( المثقفين) لبذل الجهد في تقديم أولئك الشعراء في مهرجانات شعرية ( كبيرة ) تضاهي مرابد الشعر القديمة! وكذلك أنشاء تجمعات ثقافية لهم بواجهات براقة فخمة، وتوزيع المناصب على من يحتاج أليها لإثبات شخصيته، أو لتغري المسؤولين الجدد بأن أولئك الشعراء جاهزين لخدمتهم!! والوسطاء متوفرون والحمد لله!! وذلك خدمة للواقع الثقافي الجديد!!

والأنكى من ذلك أن تفرد لهذا الشعر الشعبي بعض الصحف الجديدة صفحات كاملة ملونة، تخصصها لتلك الأسماء الرثة وتنشر لها قصائدها القديمة، بعد الحذف والتعديل والتصليح والسمكرة والصبغ والتشطيب فيها لتوائم المرحلة الديمقراطية الجديدة!

 ولكنها لا تنجح معها في اغلب الاحيان كل تلك العمليات، فتظل محافظة على روحها "القومية النضالية" القديمة!

عرض مقالات: