سيرة "داريو فو وزوجته فرانكا رامي" تمثل تاريخ إيطاليا في حياتها وخاصة في العقود من 1950 إلى 1990، عندما كانت حياتهم المهنية ككتاب مسرحيين وممثلين ونشطاء سياسيين  كانت في ذروتها، يقدمان العرض المسرحي بعد الآخر،  أيضا انخرطا في جدالات شرسة مع نماذج مختلفة من المجتمع الإيطالي، عملهما حفل بالإثارة والمشاكسة والتعارض، خاصة في جانب النقد السياسي، وهذا ما أكده  جوزيف فاريل في دراسة مهمة نشرها عن المسرح السياسي الحي في إيطاليا، ذاك المسرح المواجه دائما لا يحتوي على أي من الألفة أو التفكير الفكري أو القلق الوجودي الذي يجده المرء لدى العديد من الفنانين الذين ظهروا في القرن العشرين، ولم يستطيع كاتب سيرتهما الذاتية أن يجد الكثير من التشابه بين الدراما النقدية القاسية وتفاصيل رحلتهما في الحياة، حيث تم استثمار جميع طاقاتهما في المسرح السياسي  الذي كان بالنتيجة يقود إلى الاشتباك مع القوى المستغلة، وأحيانًا كانت جهودهما تذهب بقوة نحو التلفاز الذي شكل بعد منتصف القرن الماضي إحدى الأدوات المؤثرة إجتماعيا وفكريا وفنيا ..

أنجذبا إلى فضاء ذلك الصندوق الرائع ووجد كلاهما التآلف معه، تلك الجهود والأقبال والإعجاب جعلهما سويا يكثفان مسيرهما ويمر نورهما إلى البيوت والصالات الرسمية، الشهرة العريضة لم تغير من عالمهما الخاص، حياة فنانين وزوجين لهما تأثير قوي على المتلقي، كان القليل من المشاحنات والأختلاف يمس حياتهما الخاصة، لم يكن لهما عالم خاص مخملي او منظور برجوازي سلطوي، كانت حياتهما ببساطة تمثل الضوء الساطع الاحتفالي والقاسي الذي يغرق فيه المجتمع الإيطالي، ومهما فكر الناقد أو المتلقي بالقيمة الجمالية التي تعرضها المسرحيات التي قدمها كلاهما على خشبة المسرح، كانت مساعيهما دائما تكمن في إجبار جميع الأطراف على الخروج علانية وكشف أوراقهم السرية وخططهم غير المعلنة، ولذلك يعد – مسرح فاريل –من افضل العروض التي قدمت في فترة ما بعد الحرب في ايطاليا .. وُلد الكاتب والممثل " فو " عام 1926 في قرية بالقرب من بحيرة ماجوري على بعد خمسين ميلاً شمال غرب ميلانو. كان والده مسؤول المحطة، ووالدته من الفلاحين، وهوالأكبر من بين ثلاثة أطفال، قام بتجنيد أخيه الأصغر وأخته كجمهور ودعم الممثلين في العروض المسرحية المنزلية وعروض الدمى، من البداية، كان داريو المحرك الأساسي والنشط والنجم، في سن الرابعة عشرة - كان قراره يتفق مع قرار أبويه حيث أرسلوه إلى ميلانو ليلتحق بمدرسة Brera Liceo، وهي مدرسة ملحقة بكلية الفنون في المدينة .. في السابعة عشرة من عمره تلقى المراهق المبتهج بالحياة أوراق استدعاء للانضمام إلى جيش الجمهورية الاجتماعية الإيطالية، الولاية الإيطالية الشمالية التي شكلها موسوليني بدعم نازي بعد غزو الحلفاء لإيطاليا من الجنوب في عام 1943، كان والدا "فو" ينتميان إلى النهج الفاشي، بينما فرّ شبان آخرون إلى الجبال للانضمام إلى المقاومة ضد الفاشية، لكن "فو" كما قال فيما بعد، "فضل اختيار مركز انتظار ومحاولة تفادي الاستدعاء بالخداع". في نهاية المطاف تطوع في وحدة كان يأمل ألا تشارك في القتال، ثم هرب وأعيد قسرا إلى الخدمة ومرة ثالثة يهرب، كان يأمل بالعودة إلى المنزل والأختباء حتى تنتهي الحرب، كانت تلك الفترة بداية غير مؤكدة لحياة الشباب حيث استعد البعض لتولي مهمات سياسية أو اتخاذ مواقف جذرية ضد الاستبداد والفاشية والوقوف ضد المضايقات العدوانية للسلطة الحاكمة، فقط حصل الاختلاف في فضاء العام 1944 عندما اعتبر " فو " ان المعركة التي تدور ربما تكون معركة خاصة به، وهو فيها مجرد بيدق " يعلق أحد النقاد الذين رافقوه في تلك الفترة قائلا : " في الجيش – في الثكنات العسكرية تمكن – فو – من تقديم بعض العروض على شكل اسكيجات هزلية وجدت لها قبولا حسنا لدى المتلقي " بين عامي 1945 و 1950، أثناء دراسة الرسم والعمارة في ميلانو، توجه " فو " تدريجيًا نحو المسرح، خلال رحلة القطار من منتجع بحيرة ماجوري إلى العاصمة، كان الركاب يستمتعوا بعروضه الهزلية التي يقدمها وكانت أغلبها تسخر من الوضع السياسي الراهن، يصفه الناقد الإيطالي الكبير "فاريل" بأنه يمثل صانع الأذى المبكي، اخترع جميع أنواع النكات العميقة التي تناسب الحراك الشعبي السياسي، في أحد الأيام اضطر لبيع تذاكر حفل استقبال مفترض للفنان العالمي المشهور "بيكاسو" في ميلانو، ثم أنتج مسرحية "بواب من بريرا" وقد اعتمد على الشبه بينه وبين الشخصية الخاصة بالفنان، كما بدأ بحضور المسرحيات التي أخرجها الاشتراكي جورجيو ستريلر في مسرح بيكولو تياترو الذي افتتح حديثًا. كما قرأ كتب "غرامشي"، التي شجعت إعادة اكتشاف الثقافة الشعبية وإعادة تقييمها كخطوة ضرورية على طريق الثورة الماركسية. في عام 1950، طلب من فرانكو بارينتي، ممثل مسرحي وإذاعي ناجح، الاستماع إلى مونولوجاته، وقبلت ضمن دورة البث العام كما انتج اثني عشر عرضا منفردا هكذا بدأت حياته المهنية، على الرغم من قلة اعماله وجودتها غير المتساوية في التأثير ألا ان هناك تقدير كبير حصل عليه فيما بعد لخطواته في دفع عروض المسرح الإيطالي إلى امام، حقق تضارب لدى النقاد حول عروضه المسرحية وكانت تلك العروض تخضع لحصار السلطة احيانا خلال الإنقلابات والاستيلاء على السلطة، لعب شخصيات كثيرة مختلفة في مسرحيات تعتمد على قصص معروفة مثل " - قايين وهابيل، ديفيد وجوليات، روميو وجولييت، هاملت، كريستوفر كولومبوس، ريجوليتو – قلب بعض افكار تلك القصص رأسا على عقب وحاول فيها ضرب السلطة الحاكمة في تلك المراحل ووصفها بأنها فاسدة وذات سلوك مدمر، جمع " فو " مونولوجاته الأولى ومسرحياته تحت عنوان Poer nano - حرفياً "قزم فقير"، ولكن بالمعنى العام "فقير أبله"، هو يُنظر إلى الظلم في العالم من وجهة نظر الضحية، لكن الكوميديا المتلألئة التي حقنها " فو " في أدائه حولته من فنان خاسر إلى رمز فائز، ويظل الفنان في صراع متواصل مع السياسة والحياة والتعبير في المسرح له ضريبته ...!

 امريكا - خاص

عرض مقالات: