مظفًر النواب يملك لغة شعرية دائرة في قلبه و في صوته و على صفحات أوراقه. تنطلق من صدره،  بقوة ، ترعب كل لئيمٍ من لؤماء اعداء الشعب و الحرية و ثعالبها الخاتعة . يبحث ،  دائماً،  عن اكتشاف الفرق بين ( الصراخ الهادر) و ( الصوت الأليم ) في قراءة قصيدتِه بعفةِ حديثِ الطيور،  المتحابة،  القادرة على التفريق بين الوقوف على اعلى النخيل او في أسفل العجوة. لا يحب ان يكون بموضعٍ واحدٍ . مبدأه يقوم على : أن من يبحث عن الطريق عليه ان يتحرّكمن مكانه   و ان يفصح عن هديرِ القول و الفعل .

لا يتعجرف مظفر النواب ، في قصائدهِ،  إلّا على الظالمين من حكامٍ لهم ميزة التعجرف و سوء اعتقاد . حتى أعداءه يأتيهم ناصحاً، بل ربما يذهب اليهم دمثاً .

لا نجد في قصائده اي بيت من أبيات شعر خادجٍ . كل بيتٍ يولد بتمامِ معناه ،  كل فكرةٍ جاءت في قصيدة (الريل)  انما جاءت بموضعها الواضح . اي انها لم تمد ذراعها اكثر مما ينبغي . حين يتحدث عن القلب الحي ، و قد الف الحيوية بافكاره الشعرية بطريقة إتمام كمال البيت الشعري الواحد او المفردة الشعرية الواحدة لا شيء شعري يجزيء وحدة موقفه ولا شيء يمزق مصير فكرته لا شيء يمنعه من قول الحقيقة كاملة اننا نرى كل ذلك صريحا و خفيا بعقيدة بيته الشعري الواحد مثل :

( يا ريل  بالله بغنج

من تجزي بام شامات 

لا تمشي مشية هجر 

قلبي بعد ما مات ..)

هنا ، ثلاثية هموم ، ترتقي بحدثٍ من احداث (الريل)  الى مستوىً انسانيٍ رفيعٍ: (1) الغنج و(2) الهجر و (3)القلب الحي. انه  نظامٌ شعريٌ من نهجٍ يؤلف بين الحرية الإنسانية و الطاقة الانسانية و المعرفة الإنسانية .

اي حب ضخم هذا ألذي يرضى بفاتحة الهجر .. لكن جرأته تتكامل بالقول ان القلب العاشق ما زال حياً و عظيماً. انه قلب واسع لا يثلمه مرور قطار الحبيبة على قرية ام شامات . ما زالت القرية باقية ، طولاً و عرضاً، في مقصودها الجافي ، لكنه غير المنكسر . ربما مدّت هذه الذاكرة ضوء سراج ، طولاً و عرضاً،  من عربة القطار،  السريع في مشيته،  ليشم تراب  قرية (ام شامات)  حين يمر بها.

هذا هو مذهب الإخلاص الاعلى في الحب.  او ان بديع الكلام في هذه القصيدة كان يستقصي عن حالتين ، مضمونين ، في الحب ؛ الاول يتطابق مع الجزئية . الثاني يستقرئ الكلية الاخلاقية . الجزئية ، المصاغة، هنا ، هي ( هجرة  الحبيب) بينما الكلية المصاغة ، هنا، اعتراف الحبيبة بأن قلبها، قلب الحب ، لا يموت. ان قصيدة (الريل و حمد)  مجلس فيها المستبد ( الحب) و فيها الاستثنائي ( الهجرة).

هكذا يتمثل الشاعر مظفر النواب ، نفسه ، متحملاً صحبة هذه الثنائية العاطفية ، في علاقته بالوطن . حيث حُرِمَ من الرعوية الوطنية من قبل تاريخية السلطات العراقية،  منذ خمسينات القرن العشرين ، حتى اليوم ، اذ يعيش في مهجره القسري من دون ان تطلق الدولة انحباس راتبه التقاعدي كي يواصل كرامته في عيش حر شريف  يستدل به بعض دروب  ما تبقى من قليل حياته الصعبة يتحكم به و بتكوينه اليومي  فراش المرض المتعدد الأنواع من الصراع و الأذى من دون ان تضمن له دولته رغيف عيشه ، بلا منة،  بكونه حقا و ليس احسانا  وقد يظل الى اخر لحظة من حياته يعاني من عقدة (الرغيف مع الاضطهاد) ،  بينما يستحق  الشاعر ، وهذا الشاعر ، بالذات،  ان يحصل على (الرغيف مع التكريم)  . أراني ، مضطراً،  هنا،  ان أقول : ان زيارة المريض نعمة معينة ، لكنها لا تحرر الانسان المريض . حسناً ما صنعه وزير الثقافة الأسبق الدكتور عبد الأمير الحمداني بابتكار زيارة خاصة الى  مضجع الشاعر مظفر النواب في مستشفى امارة الشارقة،  بصحبة شاعر عراقي اسمه ( ناظم السماوي) ،  متمرسٍ على سجيةِ الوفاءِ و الإخلاصِ لموحّد ثورية الشعر الشعبي العراقي ، قبل رحيله ، بالرغم من ان هذه الزيارة الشكلية ، المتأخرة،  لا تحرر شاعر الريل من خراب الواقع السياسي في العراق ، كما لا تحرر الشعر العراقي و الشعراء العراقيين من أسباب الخوف من عواصف المستقبل .    

كل الوقائع في سلسلة حياة مظفر النواب تشير الى قدرته الفائقة على تجاوز كل شكل من أشكال مواجهة التراث المالي في علاقة الكثير من الشعراء بالدولة او بزعمائها من القادة السياسيين ، الوطنيين و غير الوطنيين، المحبين لشعوبهم او غير المحبين. حيث يعتبرون ( المال الشعري) ناتجاً تلقائياً ،  عن مديح قائد السلطة باعتبار هذا الناتج المالي التلقائي هو  احد حقوق الأقليات الشعرية . من الواضح ان هذا المفهوم لم يكن له وجود في مرتكزات القصيدة الشعرية  النوّابية ، منذ ( الريل و حمد) التي تحولت الى اغان لا تخلو حفلاتها الموسيقية من الأسس المالية ، التي لم ينتفع منها ، اي شيء ، شاعرها النوابي. كما ان النشر الأزلي المتواصل من قبل دور النشر العربية و الأفراد المفصومين منها لم يراعوا حقوق النشر بأبسط معدلاته . 

حالات سلبية كثيرة واجهها الشاعر مظفر النواب منذ بداية انطلاقته الشعرية - الشعبية ، لكنها لم تؤثر على شخصيته الشعرية و لم تدفعه الى التعقيد . كما لم يندفع ، طوال حياته الشعرية ، الى اي شكل من أشكال الكتابة في (شعر المديح) كما فعل شعراء عراقيون اخرون مثل محمد مهدي الجواهري و بدر شاكر السياب و عبد الرزاق عبد الواحد ، واخرين كثار ،  للتوسل بالحكام من اجل الحصول على بعض ( المال الشعري). لذلك ظل الشاعر مظفر النواب ، يواجه سياسة الترهيب و البطش و القهر و السجن وغير ذلك من أشكال الاضطهاد ، التي لم تغيّر اخلاقه . ظل شخصاً متواضعاً، حليماً، رؤوفاً مع أصدقائه ، معطاءً ، جميلاً في علاقاته النسائية القائمة على تبادل الإعجاب و المحبة. لم يعجبه (عقل الدولة) في أية مرحلة من مراحل حياته. إذ كان سلوكه السياسي - الفكري مبنياً منذ بدايته الشعرية الاولى ، حتى الآن، على معارضة ( الدولة) و سلاطينها الطغاة . لم يتعرف على (الوسطية الاخلاقية  ) و لا على ( المهنية الشعرية ). كما انه لم يكن يتلاءم مع الانزواء في صفوف ( النخب) او في جماعات ( الخاصة) من القوم . كانت أحاسيسه ، كلها، خاضعة للعلاقة مع ( العامة) من الناس . كانت صداقاته متفرعة مع عمال و فلاحين و طلاب ومعلمين و مع بورجوازيين و كادحين و غيرهم من أوساط الشعب العراقي او السوري و الفلسطيني و غيرها . لم يكن (المال) عنصراً محتملاً بصداقته. انه شاعر معني بالتعامل مع أية قضية  شعبية (  عامة ) من دون ان يرتعب من اخلاقية الآلة البوليسية ، التي تقمع او تقف بالضد من مصالحه ( الخاصة ) . لذلك تواصل شعره بنصٍ (سياسيٍ ) واحدٍ مناوئٍ لكل تشريع حكومي لا يحترم  الحقوق و الواجبات الأساسية،  المتبادلة،  بين المواطن القوي و المواطن الضعيف ، بين ( الحاكم) و ( المحكوم) على وفق (مبادئ حقوق الانسان) المدوّنة في الإعلان العالمي بالأمم المتحدة و في  ترتيبات المنظمات العالمية ، جميعاً. من تصنيفاته (الاجتماعية )  أوجد الشاعر مظفر النواب ،  رؤية  شعرية و مواقف سياسية ، تقدمية،  مناوئة لكل اخلاقيةٍ، رجعيةٍ، لا ينتج منها أو عنها ، خطوات إنسانية مقدامة ،  تساهم  في بناء  مجتمع الحرية و الديمقراطية . كان من جراء هذه الرؤية شديد التقدير لإشعار  شاعر اللغة الفصحى القريب من وعي و فهم الناس البسطاء ، المتجسد بشاعرية و شعبية  ( معروف الرصافي) ، الذي حطّم طوَّق الأساليب التقليدية – الرجعية ،  من اجل ان يكون شعره صنفاً فاضلاً من أصناف مكارم الاخلاق الشعبية المناوئة للأخلاقية الطبقية – البورجوازية. كانت الأخلاقية البورجوازية الناشئة ، حديثاً، في العراق من صلب الأخلاقية الاقطاعية قد اعتمدت وقامت   على استخدام الاٍرهاب البوليسي ، الشامل، في تعاملها  مع الجماهير الشعبية ومنهم ، الطليعية الثقافية ، بما فيهم الطليعة الشعرية ،  التي تكوّنت ،لاحقاً ، من مجموعة الشعراء الشعبيين التقدميين ( عريان سيد خلف و شاكر السماوي و ريسان الخزعلي  و عزيز السماوي و أبو سرحان و علي الشيباني و زهير الدجيلي و ناظم السماوي و كريم العراقي و وفاء عبد الرزاق و  و كاظم غيلان رسمية محيبس و علي العضب و علي الشيباني و زاهد محمد و رياض النعماني و كامل الركابي و جمعة الحلفي  وغيرهم من مئات  الشعراء  المرتبطين بوشائج شعبية متأهبة ، لمقارعة الاستبداد بكل انواعه . كذلك اعتماد أساليب الدفاع عن الحرية ، بوسائل حماية الحرية ، بما يؤدي إلى انطلاق روح الحرية،   القائد  الى الحرية الحقيقية.  انحدرت هذه المجموعة من صلب الوعي بالشعر الشعبي  و دوره في استخدام الشعر الشعبي الموصول برهانه بشكل او اخر بصناعة الخالق المظفري الأحد  وثورية المعرفة الشعرية الجماعية ، المستخرجة من قصيدة (الريل) و ما تلاها ، حتى صار الشعر الشعبي ، التقدمي،   وسيلة من وسائل كتابة التاريخ العراقي  ،مما  يفرض على الدولة و الحاكمين فيها، حباً و احتراماً، للشعر بكل اجناسه و صنوفه ،  بتكريم اهم الشوارع و الساحات العراقية بأسماء شعراء و أدباء عراقيين  ،  بالطريقة الحلاوية الكريمة،  عقلياً و شعورياً،   حين قام البابليون  بتسليح  احدى الساحات العامة بتمثال الشاعر العقلي – العاطفي الفذ موفق محمد بيقينٍ ماليٍ مستقلٍ عن الدولة و عن وزارة الثقافة العراقية   

ان تسلط الدولة العراقية على ماديات المجتمع و روحانياتها دفع  قدرات  و طاقات  السلطات الحكومية (الأمنية) في بغداد و مدينة الكاظمية ،  الى ممارسة أقصى نوع من انواع الاٍرهاب بحدودها القصوى مع شاعر ( الريل و حمد ) منذ ايام شبابه الطلابي و الجامعي حيث كان ( عقل الدولة) مناوئاً ، بكل أشكال التكبر و العنف،  لكل نوع من أنواع الثقافة الشعبية الجديدة . كان منطقها الباطش ، المتشدد  ، حافزاً ان يكون شاعر (الريل و حمد ) على استعداد للتحول الفوريإلى الفكر الثوري و الى ان يسوس اشعاره الشعبية ،  ما بعد ( الريل ) بقيمةٍ استعماليةٍ، جديدة النوع ، في الشاعرية العراقية . كان  غرارها في  قصيدة (صويحب ) المسماة ( مضايف هيل ) ، التي تزينتْ أبهى عناصر الرفض الشعبي - الفلاحي ، لفروض سياسة الاٍرهاب و الترهيب ،  الإقطاعية ، في الارياف العراقية كافة. كانت هذه القصيدة و ما تلاها من قصائد نوّابية ، قد احدثت نوعاً من التكامل الشعري مع نهجٍ  شعريٍ ، لاحقٍ،  اختطه مظفر النواب ، نفسه ، باستقلاليةٍ خصوصيةٍ، نالت ، محبة جماعية مشاعة ، من أفعال و مواقف ومشابهات مقتدرة من شعراء شعبيين عراقيين،  آخرين،  ساندوا طاقة  أشعاره الشعبية ، بافتراض ان كل خطوة من خطاه الشاعرية - المستقبلية ، تكرّس  علامة من علامات شعرية ، شعبية، من اجل مناوئة ( الاستبداد السلطوي) من جانب الدولة و الحكومة الإقطاعية .  كما كان  الفعل الاجتماعي ، بموقف اجتماعي معلوم في (الريل وحمد)  مستنكراً ، استنكاراً ( مطلقاً)  حالة (الاستبداد العاطفي) في الحب و العشق الشعبيين.

 اصبح مظفر النواب شاعراً مراقباً من الدولة لأنه امتلك هالة الرقابة الشعرية على الدولة و المجتمع ، بسرعةٍ شعريةٍ لا مثيل لها.  ربما بقصيدتين شعبيتين أوليتين. كما انه اصبح بهيبةٍ شعريةٍ، شعبية ، بالغاً مستوىً لا يقل عن مستوى التراث الشعري الفصيح ، المتحقق بزمان طويل و بعد كفاح طويل حققه (معروف الرصافي ) و اخرون .  هكذا وصل شعر الشاعر الشعبي مظفر النواب ، بسرعة فائقة، الى  الإدراك الطوعي في الوعي الاجتماعي و السياسي ، من خلال إتقانه المعرفة الثقافية الثورية  و ( الموقف الثقافي) من القضية المركزية الكبرى ، في العلاقة بين الراعي و الرعية ، بين  الحاكم و المحكوم ، بين المواطن و الدولة. ربما كانت صداقته مع الوجوه ، التقدمية،  الواعية ثقافياً من أصحابه في المدرسة الثانوية الكاظمية و في الكلية البغدادية و في معسكر اعتقال السعدية ،  او من خلال انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي ، الذي كان هو الحزب الوحيد الأكثر اهتماماً و رعاية  من الأحزاب الوطنية الأخرى لقضايا الأدب و الأدباء و توكيد روابطهم الشعبية . لا شك ان هذه العلاقة ساهمتْ في قوة عزيمة و شكيمة شخصية مظفر النواب و ثورية شاعريته ، مما صيّره  محبوباً الى النفوس ، بالرغم من بقاء روحه الاستقلالية،  في السلوكية الحزبية  العمومية و الخصوصية .  غير انه لم يكن شاعراً منقاداً نحو الخضوع تحت معنى من معاني الطاعة الحزبية. 

كانت العلاقة بين الشاعر النواب و الحزب الشيوعي علاقة محبة على وفق الخصال الحميدة ، المتبادلة في العشق الحقيقي المخلص و الطبيعي ، المرئي و اللامرئي في جواهر الإحساس بالثقة و الامان في قصيدة(  الريل و حمد ) حيث استمرتْ و تواصلتْ علاقة الحزب الشيوعي مع مظفر النواب او علاقة مظفر النواب مع الحزب الشيوعي،  على أساس التآلف الفكري ، العام،  عدا الفترة القصيرة  و الأسباب  الثانوية ، اللاتي اشرتُ إليهن في كتابي السابق ( نقرة السلمان) و في كتابي عن هروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة المركزي عام ١٩٦٧ . لقد ادرك الشاعر مظفر النواب ان الناس ، جميعاً،  هم من اصلٍ نوعيٍ واحدٍ في الخلق . ان ما يلحق بهم من أذىً على غرارِ (الريل وحمد ) و ( مضايف  هيل ) هو حال واقعي يتطلب من الشاعر ،عموماً،  ان يكون فهيماً ومعرفياً ، مناضلاً صلباً ، قادراً على الشرح و البيان باللغة الشعرية ، سواء كانت لغته التعبيرية ، فصحى او شعبية . لا بد ان يكون أميناً في التعبير الشعري ، متفرساً في مدلولاتِ جماعيةِ  النضال الاجتماعي و منغمساً فيها ، مثلما كان مظفر النواب يؤدي  مجهوداته الشعرية ، لتوريث موقفٍ شعريٍ، ابداعيٍ، ضد سلبيات الحياة وضد الرياء الاجتماعي ، كما في الريل  او ضد الخزي السلطوي لتوهين الإرادة الإنسانية ، كما في جميع قصائده بعد الريل .  لم يتوقف شعر النواب عن عمليةِ نقلِ صميم الوجدان العراقي من (الصراع الذاتي) الى (عمومية)  القضية،  الشعبية ، النضالية ، لترويض السلطات الرجعية الحاكمة بجميع أنواعها، واجبارها على نبذ النظرة الحيوانية الى الانسان.

  بهذه الصورة كانت احدى منجزات مظفر النواب في الشعر الشعبي هي تنشئة الانسان الواعي وضمان انفتاحه على النفس و الجسد في الشؤون،  العامة و الخاصة ، واتقان الفعل الشعري بصورة صائبة ،تماماً،  انطلاقاً من مبدئية الشعر الشعبي في ان يكون خلاصا من أزمات إنسانية عصبية،  كانت و ما زالت تستدعي العلاج باعتباره اختصاصا شعريا و ثقافيا  .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإرادة الطيبة في بعض الاهواء و الغرائز و الجنس في القصيدة  مظفر النواب..   

الحلقة (9)

سؤالٌ كبيرٌ و عميقٌ يخطر  على البال الجماعي ، بين سجناء (النقرة) ، يتعلق بالكيفيةِ الشعريةِ ، بالنوعيةِ الكلاميةِ ، الجميلةِ و اليقِظِة،  في الجملة الشعرية ، النوّابية ، على امتدادِ أبياتِ قصيدة (الريل و حمد) ، المتفاعلة مع :

(1)  الواقع العراقي.  

(2)  مستوى الوعي الشعبي في الريف العراقي .  

(3)  الضمير الإنساني الصادق، العميق، المتطلع الى التحرر من الظلام الاجتماعي ومن الظلم السياسي المركّب .

(4)  الإرادة الفردية الحيوية في اللفظيات الشعرية.

(5) جمال الأسلوب لتقديم اقصى غايات المعاني الشعرية – الإنسانية.

(6) الاستناد الى احكامٍ عموميةٍ و خصوصيةٍ حيال المأثورات الشعبية و التراث.  

(7) تجسيد المعنى الفني الشعري الوجداني – الروحي ليكون (عديلاً) في عهدة الحب و (نسيبا)ً من انسباء التضحية .

(8) أبنية  التجربة النوّابية الشخصية  المألوفة بالجسد العمومي الشعبي الشامل.

(9) تضامن الكل بالواحد و الواحد مع الجمع في الأخلاقية الإنسانية.

(10) جذرية العلاقة بين الخبز و الجنس بين جميع البشر المتضامنين على العيش في انحاء الكرة الأرضية .

(11) حياة الانسان المؤلفة من قضايا التناقض السلبي مع الإيجابي او اتحادهما.

(12) تباين العلّة الإنسانية بـ(الحب) و (العشق) في آتي  الحياة المستقبلية،  حين تبني نظاماً لا تعوزه روح الحق الشامل.  

 تَمثّل هذا المذهب الشعري المظفري  بتحويل  (الكلمة المدنية) الى (أداة  طليعية) في الريف الجنوبي، بتقريب عامية  لهجة الريل و حمد ، الى اقصى حد،  لدمجها بالفصحى ،  معبرا عن واجب التأكيد على عمق الوجود بين علاقة المدينة العراقية الممثلة بشعر شاعر مدني مع  الريف العراقي ، المتمثل بالحبيبة ،  ابنة قرية أم شامات. تماماً،  مثلما اعتنق الممثل الإنكليزي (انطوني كوين) آية (الرقص) و (الخمر) في تجربة عالمية مشهورة بموسيقى معروفة اسمها (زوربا) ،   أدرك فيها ارهاقاً شديداً، فوق منصة الفن السينمائي . كذلك استخلص مظفر النواب حركته  التاريخية بآيةِ التعبير  من خلال التداخل الشعري بين (الحب) و (الشعر).      ادرك  الشاعر النواب ، عن يقينٍ،  في مرهقِ مفرداتِ قصيدة (الريل) مع ما  اعقب نجاحها المعبّد بمزاولة (الشكل) و (المضمون) ، الناميين، المؤهلين بالتفاؤل  و بتراكيب الصورة المرسومة بقولٍ متكررٍ، مفاده (هودر هواهم و لك حدر السنابل كطة) .  

التكرار الشعري ، هنا،  رفعَ  القصيدة الى الذرى المعرفية – الشعرية و الى ما فوق ارتباط (القول الشعري) بـ(الفعل الشعري)  في ترقية جميع أبيات القصيدة الشعرية – الشعبية – الريلية ، التي ليس فيها علاج غير الحب وليس لها حل مؤقت او دائم غير الحب.  لذلك تحركت خطوات تكرار (اللازمة الشعرية) بيد مظفر النواب،  باحتمال استكمال تجربة عاشقين صارت مجزأةً بفعلِ علّةٍ اجتماعيةٍ ما .

كان رجاء أو مطلب  السجناء السياسيين في (النقرة) يختلف في عمقهِ و في استفساراتهِ عن شعلة  الشاعر  مظفر النواب لتضيء نعمةِ خطابه ِ،   بأسلوبٍ شعريٍ ، ابتغاه   ان يكون الخالق، الناطق،  لشعرٍ شعبيٍ، جديدٍ، بقصد  تحويل (زمان الكلام) الى مشاركةٍ فعليةٍ،  مليئةٍ بالرجاءِ و الفرحِ و اليقينِ .

تتواصل  آراء الاستفهام ، هنا وهناك،  بين شخصين او بين مجموعة اشخاص من الموجودين في قاووش معين في النقرة او في بعض ساحاتها  بشكلٍ من اشكال  السرية،  لكنها تخرج ، على الفور ، من  خطايا السرية الى القداسة العلنية . السجن منشغل ، يومياً،  بالأسئلة عمّا يملكه الشاعر مظفر النواب من مواهب عديدة ، منها  القدرة المثالية  على الكلام الفصيح بنوعٍ من البلاغة و عن الكلام  العامي بنوعٍ من الهدير المسموع من  شقشقات ( النقرة)  بصحراء السماوة ،حتى صداه المسموع ، جنوباً،  في جبل (سنام) بصحراء الزبير  . لكن الجميع ، داخل السجن و خارجه، يعرفون ، تمام المعرفة،  أن   عنز الحكومة العراقية السوداء ، لا تهتدي بما يقوله  في شعره ،  لان رغاءها يمنعها من السماع او الاصغاء . لا يوجد مسؤول في الدولة العراقية  يحس بصوت الرحى ، التي يحركها الشاعر الناظم مظفر النواب . لا استقامة في تعامل الحكومة مع ضحاياها من سجناء ( النقرة) لأن الحكومة مطمئنة الى ان مفاصل الطيور و الحمام، المقيدة،  لا يمكنها ان تنقل الشيب الشامل والقهر الشامل و التخريس الشامل.  لكن الموظف الحكومي الأعلم في إدارة ( النقرة) كان يخشى من جدب الزمان الحكومي و احتمال انقلابه على الحكومة و الدولة لأن جهد السجناء و الصوت  المشترك ، مظفر النواب و سعدي الحديثي ، المرتفع الى الصحراء و منها الى المدن العراقية ،كافة ، قالعاً جذوعَ نخَيلٍ لا  تساقط رطباً جنياً .

بكل الأحوال فأن الكثير من السجناء يعرفون ان للبعوضة خرطوم يشبه خرطوم الفيل ، لكنهم لا يعرفون سبب عظمة اشعار مظفر النواب و تحوّل صوته الى ما يشبه هدير الأسود . انه صوتُ شاعرٍ غضبانٍ،  ليس فيه اي وهنٍ،  لأنه صوتُ شموسٍ نضاليةٍ،  مدامةٍ  بالأعلى ، دائماً . 

كانت أسئلة السجناء تتكاثر بين الادباء من أساتذة الشعر و من تلاميذه ،في هذه (النقرةّ) .  من أمثال الشاعر المتحد مع نفسه و بإرهاق التقدمية الشيوعية (ألفريد سمعان)  او الشاعر الشعبي الكظماوي (هاشم صاحب) او سواد عديد  من شبّان (النقرة) أمثال خالد الخشان و دينار السامرائي و فائز الزبيدي و ناظم السماوي و محمد الجزائري و سعدي السماوي وعشرات غيرهم ممن يريدون الدخول الى  تاريخ الشعر وأدب السجون  من بابه الواسع    . كثير من  السجناء ، من غير الادباء، خاصة من الضباط و الجنود ،  بمختلف القاعات الكبرى العشرة في (النقرة الجديدة) يتساءلون ..   كذلك في القاعات القديمة يتوجه الكادحون   بأسئلةٍ  حيويةٍ  عن شعرِ الشاعر مظفر النواب الى الناقد المترجم (صالح الشايجي) في القاووش رقم 2 او الى كمال عمر نظمي في القاعة رقم 6  او الى نصيف الحجاج في القاعة رقم 4 او الى اسعد العاقولي او سليم الفخري او الى جمعة اللامي او الى المترجم سلمان العقيدي او الى بديع عمر نظمي او الى غيرهم بالعشرات،  لكن الأجوبة كانت تقفر  الى العدمية او التنازعية   بمحتوياتها،  فهي ناقصة او مضطربة ، مما كان يعني استمرار الصراع حول قيم التراث في الشعر الشعبي المظفري.  

اكثر الأسئلة تتوجه بوفرِها الى (سعدي الحديثي) باعتباره الصديق الأقرب الى مظفر النواب لكي يؤدي بمعلوماته عن كشف  سرّ الاصالة الشعرية،  المعاصرة،  في اشعار صاحبه. يرتقبون   منه  أسرار و آفاق محدثات التمدن الثقافي بـ(النقرة الصحراوية)،  العاجزة بمكانها الانعزالي البغيض عن مماشاة التطور الإنساني و محاكاته.   اكثر الأسئلة لا تخلو من رؤية استقصائية  في عمق الطموح التالي :   تُرى من أين يأتي جمال الكلام في قصائد النواب ، بينما قبح مكان (النقرة) و زمانه ، على اشده ..؟

الربيع في هذا المكان مثل الخريف و الصيف خانق مثل الشتاء ..

ماء  الابار الكبريتية يدخل مغلولا  الى بطوننا فهو نوع من سموم،   تخصّب  بسرعة قاهرة  بياض شعر الرأس  و اللحى.

نوع شاذ  من جنون الحكومة  و مرض سجانيها يعتقل صحة الانسان السجين  و عقله و لسانه .

يضطر ، كل سجين ،  تحت البصرِ ان ينفثَ بين ساعات يقظته و نومه،  ما لا يقبله طب الأطباء السجناء  و لا نصائح الوجهاء من سجانين شرفاء.  

بهذا المكان ، تصرعنا   عفونةُ  ماءٍ  و ملوحته..  يتناوله  السجناء اضطراراً.  

ما بال الطبيعة ظالمة الى هذا الحد بصحراء  نقرة السلمان..؟  لماذا لا يستبشر الانسان،  هنا ، عندما تمطر السماء..!  ذلك العطاء السماوي ليس سوى  نذير عاصفة ترابية تعقب امطارها ، بيومٍ او ببضعِ ساعاتٍ،  تقلب اسافل  السجن على أعالي السجانين في الربايا الأربع المحيطة بكل جوانب النقرة،  بقصدِ حراسةِ انفسِهم من خططٍ خفيةٍ يظنونها غريزة سجنية محبوسة في شعور أخلاقية هروب المسجونين  .

تتحول الصحراء ،كلها،  الى توترٍ لا يشعرُ به الانسان  السجين ، بأي شوقٍ انسانيٍ ، حيث يتوقف تأثيره النوعي على الفنون الجميلة، من شعرٍ و رسمٍ و كتابةٍ و  تصويرٍ و غناءٍ وابداعاتٍ موسيقيةٍ  و تمثيلٍ مسرحيٍ كأن السجناء  أمواتٌ،  تموت معهم اذواقهم الفنية  لجعل عذابهم يشعرهم  ان ذيلاً قد نبتَ في مقاعدهم من طول القعود على ارض مسجونة ِ وان الجميع صاروا من مرضى قصر النظر، بينما الربو يجعل حواسهم مقطوعة عن الحياة..!  هذه مآسي (النقرة) المؤثرة في الحواس الإنسانية الخمس او الست . إذنْ من أين يأتي جمال الكلام الى عقل مظفر النواب و شعره  و هو يواجه التفجر الداخلي عن انفكاك ارتباطه ، بعائلته،  بالوالدين و الاخوة و الاخوات و بالأصدقاء الكثيرين . كما لا تخيفه ، كثيراً،  عتمة عيني حبيبته،  التي تواجه الحيرة من المستقبل و الارتياب بتطور الأوضاع السياسية في البلاد العراقية ،غير المأمونة ، مثلما هو حال آلاف السجناء من روّاد (النقرة) حيث يدخلونهم فيها  بلا لبابٍ و يخرجون منها بلا لبابٍ لأن نهارها ليلٌ طويلٌ لا تنام فيه إلّا الطبيعة الغاضبة، تغذي عيون  و افئدة المسجونين  .  كان كل شيء ، من مثل هذا  البؤس و الشر و الوحش يواجه أعماق السجناء و منهم  مظفر النواب  يُبان التلألأ على جبينه،  مثل جبينهم،   بخصب المعاناة الذاتية.  يجد حاله ، كل ، يوم منفتحة على حال رفاقه في (النقرة)  وكل واحد منهم  يخضع لاستبداد الوجود الظالم و هو لا يدري كيف يقرأ او يستقرئ  أوضاع الساكنين بـ(النقرة) من السجّانة خارجها او السجناء في داخلها . صار السجين في النقرة يضيق على عقل رفيقه بالسؤال .. و  كنت انا من السائلين أيضا :

من اين اتى و يأتي الى الشاعر مظفر النواب كل هذا التطلع الملحمي عن  النشوء او التصوير في المفردة الشعرية و في الجملة الشعرية و في خلق القصيدة الشعرية..؟

 من اين يأتيه هذا الإحساس المتخيل بكامل عدته الإنسانية..؟ هل لأنه شاعرٌ تواترَ الخيالُ عليه هبة من إلهٍ في احدى طبقات السماء  أم لأن هذا الشاعر هو  (مظفر النواب) جبله والداه على المخلوق الشعري،  بداخلهِ،  حتى صار الشعور الإنساني في أعماق اشعاره خيالاً لا يمكنه أن يبني حاجزاً بين بحر (المدينة) و برّ (النقرة)، بين مكان (الكاظمية) و زمانه و مكان (النقرة) و زمانها ، طالما الحكّام في المكانين و الزمانين هم من المخلوقات الحيوانية الوحشية .

من هنا يأتي سبب ترجيح الحب و الجمالية في اشعار مظفر النواب وهو المواطن الكظماوي المؤمن بنظرية الإنكليزي (شارلس دارون)  حول (تنازع البقاء) في  القصيدة الشعرية الأكثر حكمة و مسؤولية.

انتبه مظفر النواب ، منذ اول قصيدة نظمها بالشعر الشعبي (الريل و حمد) الى أن اشعاره ، كلها، لن تنال العظمة الشعرية و الأخلاقية النضالية من دون محاسن  تنفيذ نظمها على وصف نظرية البقاء الشعري  للأصلح لصاحبها و صاحبه شارلس دارون .  

بذلك فعل أفعال المهندسين العراقيين و الإنكليز المنقبين عن منابع الثروة النفطية في اهوار الجبايش و القرنة..  استقصى مظفر النواب عن الجمال الشعري بطريقة التنقيب و التأمل و الخيال، كي يغدو شاعر التجارب و الحكمة و الفراسة ، ناطقاً باسم الكتيبة الإنسانية، الثورية ،  العراقية.

ترك متعة و عنوة المتواليات الحياتية، الذاتية، لاعتقاده ان الانغمار بها ، يسلب   العقلانية الحضارية  و الكياسة الموضوعية بالحالتين الدفاعية و الهجومية  ظلّ  محافظا على طهارة نفسه ورجاحة عقله بمختلف الظروف السياسية ، الصعبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عرض مقالات: