لعبة مظفر النواب في الجاذبية الشعرية

لا أستطيع الادّعاء أنني كنتُ قد اطلعتُ على جميعِ ما كُتب عن شاعرية مظفر النواب و عن شعره الشعبي خصوصاً . حتى لا ادّعي انني قرأتُ اغلب ما كتب عن مميزاته او خطاياه.

 سلطة الكتابات النقدية عن القصيدة النوّابية ، كانت و ما زالتْ محدودة ، حتى هذه اللحظة . هذا الحال يضاعف رغبتي ، بكتابة مقالتي هذه عن بعض شعره ،  عن قصيدة شعرية واحدة ، اي  ليس عن ( جميع ) شعره، تاركاً  ذلك إلى مستقبل النقد،  الى مبدعين مختصين بنقد الشعر الشعبي ، يأتون على معظم شعره و على طبيعة علاقته الاجتماعية و على النضال الشعبي ، عموماً، و في الريف خصوصاً. الشيء المهم في الدراسات النقدية هي دراسة الروابط الحقيقية ، العميقة ، بين الأدب الشعبي المظفري و الأدب العراقي عموماً. مثل هذه الدراسات الواسعة تعيد الى الذهن العراقي - العربي - النقدي جميع تفاصيل العلاقة بين الشعر الشعبي و الشعر الفصيح ، بما يؤسس نظرة ادبية كاملة لعموم الثقافة النضالية،  بمجهودات الشعراء الشعبيين ، بدءً من شعر مظفر النواب و تأثيراته،  الخاصة و العامة ، المتبادلة بين هذين النوعين من الأدب العراقي . من الاختبارات النقدية الجاهزة ، حتى الآن، يمكن اكتشاف ( بعض) مرتجيات المستقبل الشعري ، العراقي. بعد ان خاض مظفر النواب مغامرته الشعرية الكبرى في معظم قصائدهِ،  التي حاولتْ تخطي التأزم السياسي ، بمختلف العصور ، الملكية و الجمهورية ، حتى هذه الساعة ، حيث تعاصر كلمة الشعر ، كلمة الدين ، تحت جسد النظام الاسلامي القائم منذ عام ٢٠٠٣ حتى الآن . يريدون إنقاذ (التراث الاسلامي) في العراق بواسطة الفقه الاسلامي - الفارسي ، الذي حاول ان ينتقل من عالمه الإيراني الى عالم اخر ، ويحاولون الامتداد الى بلدان عربية اخرى من خلال الفتح العراقي تحت ارتفاع سيف الذبيحة الفارسي على اعناق الشعر العراقي و الأدب العراقي.لكن التاريخ الإنساني ، كله، اثبت ان الهوية الإنسانية – الأدبية – الذاتية للموهوبين من الأفراد و الجماعات و الشعوب ،  لا تتحقق بوساطة تحكم القوي بالضعيف أو بمحاولات تحطيمه.  ان العنف ، مهما كانت شدته،  لا يتمكن من القضاء على غريزة البقاء.   التاريخ الدارويني حتى الفرويدي ، قد برهنا على ان القوى الفاشية التدميرية تلتهم أصحابها بأفعالهم القسرية . 

الواضح جداً بقصيدته ( للريل و حمد ) ان مظفر النواب  زيّنها بالأنوار ،العديدة الأشكال،  وهي مموهة بمفرداتٍ واضحةٍ،   لكنها  رزينة بذات الوقت . كانت مفردات ( مرينة) و ( غطار الليل ) و ( يا ريف صيح بقهر) و ( يا بو محابس شذر ) و ( يلشاد خزامات) و غيرها ، انه بتلك المفردات و تشبيهاتها قد حوّل القصيدة الى منظورٍ بعينِ قارئِها، عن  معنى  أصول الابتكار الشعري الملموس  وعن تطبيقٍ خلاّق للتكنوقراطيا الشعرية الجديدة . هذا  جعل القصيدة  كاملة في أوصافها ، منظمة بجماليتها .

الزخرفة شملتْ بداية القصيدة الى نهايتها . كان جواد فرشاته يطوف بقوة و نضارة و حسن و جمال  لزخرفة المفردة الشعرية و زخرفة الصورة الشعرية . الشيء الذي ينبغي معرفته ان قدوره الثقافية جعلته زاخراً بمواهب عديدة ،أكرمته مثلما أكرمها  . منها ان واحداً من الاقدار زخر بموهبة الرسم . زخرت بحور شعره بالصور الزاخرة بقصائده ، كلها، تقريباً. جادت قريحته بهياج الصور في قصيدته الشعبية الاولى ، كما جاد عليه فن الرسم في زخرفة المفردة الشعرية فيها؛ و بذلك حسنت حال قصيدته الاولى الى الحد الاعلى و هي مزكاة ،لغوياً،  قابلة للتنوين و التعليل . هذه النطفة الشعرية بالقصيدة الشعبية المظفرية كانت صيحة أيدتها ، فوراً،  هاماتٌ شعريةٌ مضمومةٌ،  من بداياتها الى جَارِيَات التطور الشعري و حداثته . كان في المقدمة منهم الشاعر البصراوي المنطلق بلغةٍ ممدودةٍ الى قلوبِ القرّاء بقصائد  شعرية ضاربة بقوة  و بصورٍ لا يخيب رجاؤها باحتلال موقعها في نوادر الشعر العربي ، الحديث. اقصد ، هنا ، الشاعر البصراوي سعدي يوسف،  صاحب قصيدة ( يا سالم المرزوق .. خذني في السفينة) خالقاً بها قاعدة حركة شعرية ، ناهضة بالحداثة في معناها و مبناها.  نشرت القصيدة على جسد كتيب  ضم انتاجاً في الشعر و القصة و النقد في لواء البصرة عام ١٩٥٦ . و في ساعة من ساعات نهار نشر فيها مظفر النواب قصيدته المعنونة ( للريل و حمد ) اعلن سعدي يوسف تأييده الكامل للنهج المظفري المتجدد بخط الاستواء بهبائبه في روضة الشعر الشعبي

كانت شخصية الشاعر مظفر النواب متميزة بأنها حليمة ، ساكنة. مظفر صميت ، قليل الكلام . لكنه يضمن لكل متحدثٍ أمامه انه ضامن في اصغائه لكل متكلمٍ،  سواء كان هادئاً مثل سعدي يوسف او عبد الوهاب البياتي وليس بصوت صياح او زاجر مثل صوت الشاعر محمد مهدي الجواهري. كذلك لاحظتُ ان مظفر النواب ينشغل بنفسه ، وحيداً، اذا ما كانت أبياتُ قصيدةٍ شعريةٍ تزوره،  كلاماً ، ينبغي تقويمه و إتقان تسطيره على الورق قبل ان يتكلم به . كنتُ قد رأيته في اثناء تعديلاتٍ ادخلها على قصيدة ( البراءة) حيث  أصيب بكبيرة الكبائر المرضية ، الارتجاف و ارتفاع درجة الحرارة . هذه الكبيرة أوجبت عليه مراجعة طبابة سجن نقرة السلمان  ، مرتين، بليلةٍ واحدةٍ ، قبل يوم واحد من إلقاء قصيدة ( البراءة) التي كان يعمل بها ، تعديلاً و تصحيحاً ، قبل قراءتها امام جمهور السجناء  ، بينما كان مظفر  يمر بظروف  سيكولوجية ، صعبة . كذلك اصبح قريباً جداً من المنية حين علم بوفاة  المصلاوي الهارب من نقرة السلمان ، الذي  ما استطاع ان يدخل السرور و الحبور الى صدور  السجناء بسلامة وصوله الى موضع الامان في سماوة الماء . مات  السجين الهارب من نقرة السلمان النقيب في صفوف البحرية العراقية (صلاح احمد)  قبل الوصول الى نقطة الامان !  من دون ان يعرف احد زناد او كراع  قاتله .. هل هو حيوان او ان ندّين او سببين ،  او اكثر ، اجتمعا أو اجتمعوا ، في ظنون هذا القتل . اندفع الشاعر مظفر النواب نحو الوقوف على حجر القصيدة الشعرية للهجوم على الموت و مسببيه واسبابه و على المترنحين بالكلام .

بسرعةٍ شربتْ أسماعُنا ، هناتنا،   نحن سجناء ( نقرة السلمان ) قصيدة مظفرية  عنوانها : ( المنايا الماتزورك .. زورها) . حين كان مظفر النواب يروي  زاد و مزاد أبيات القصيدة بالضمة و الفتحة و الكسرة و بقول رثاء يزيح هزال الرمل و يجعل  المناضل السجين الهارب ، يُمنن علينا بقضاء و عدالة التضحية . في احاديث بعض الساكنين في قاووش مظفر النواب ، أنه تكلّف بمرضٍ خاصٍ خلال عملية ملء هذه القصيدة،  بكل ما يجعل التاريخ النضالي ، العراقي،  مستفهماً بأوصاف الرجل الهارب من الموت الى الموت بالموت نفسه .

كانت زبابيد الشاعر مظفر النواب قد غطت القصيدة، في تلك الليلة السوداء ،  بأظفارهِ الحارة ، المريضة

عرض مقالات: