مثلما انشغلت نازك الملائكة و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري  بأمور قصيدةٍ ، شعريةٍ ، جديدة النوع ، جديدة الأسلوب و المضمون ، اسمها ( الشعر الحر) بعد التحرر من بحور الخليل الفراهيدي ، عام ١٩٤٧بإيجاد مصطلحات جديدة على هذا النوع من الشعر الفصيح وصولاً الى تسمية ( قصيدة النثر). كان مظفر النواب قد تدارس ، مع نفسه ، هذا النوع من التغيير في القصيدة الشعرية الشعبية . كانت محاولاته خلال النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين هي الانطلاق نحو ( تجديد) مكانة و منطلقات الشعر الشعبي  على وفق تجارب الرؤى الحضارية،  الثقافية ، المتغايرة ، بكل مكان في العالم . على هذا الأساس اتجه النواب الى تحرير القصيدة الشعبية العراقية من بعض إيقاعاتها ، الساكنة  بمساراتها و  الرتيبة في فرص تقدمها ، ليكون  هذا النوع من الفن الشعري جزءاً من الشعر القريب  ، الذي توصل اليه النوّاب بقصيدته (الريل و حمد)  حيث بناها على معنىً شعريٍ جميلٍ ،  بأسلوبٍ عذبٍ، رصينٍ ، قاد بهِ القصيدة الشعبية الى ذروةٍ مشهودةٍ من ذرى الإمتاعِ و المؤانسة ، محققاً خطوةَ الوصول المبتكر  الى الذوق العالي  ، في الشكل الشعري و جماله،  انطلاقاً من ديناميكية (الابتكار) و (التجديد)   بمداخلاته مع نفسه ، حيث وفّرت ازدهار الشعر الشعبي بالنموذج المظفري  . 

سجّل  مظفر النواب بقصيدته الشعبية (الريل و حمد) فضيلة أدبية - شعرية – شعبية ، من نوع خاص. ليس من السهل ان نراها معتمدة او سهلة المنال  لدى اي شاعر شعبي عراقي  آخر،  مهما كانت مثابرته و تطلعاته و ثقافته ،  في تلك الفترة المليئة بالتعارض والصراع . كانت  هذه الرغبة في اختراق تاريخ الشعر العامي – الشعبي مهيمنة على مظفر النواب وهو يتخيّل نموذجاً جديداً،  يقوم مقامَ نموذجٍ قديمٍ، و كان يشعر بضرورة اختراع قصيدة شعرية – شعبية تشرّع لمأسسة التجديد الشعري .

خصلة النواب ، نادرة و معرفية و تعبيرية  بوقتٍ واحدٍ . فيها مشاق التجديد و فيها مراجعة  خلق  ذوق  شعري ، لهجوي، لحاضرٍ  جديدٍ،  يعزّز إمكانية الإحساس بالذات الشعرية الشعبية و انقاذ عزلة الشعر الشعبي عن العالم الخارجي . 

في معمعة المعقول و اللامعقول المشهودة في نقرة السلمان كان واحدا مهما من لباب التساؤل من نصيب الجرأة في كثير من السجناء عمّا إذا كان موج قصيدة (الريل و حمد) معبراً عن حركةِ من حركات  حب الشاعر ، نفسه،  بينما كان شاعرها منشغلاً بأخبار الناس ، بكل مكان من العالم . قانونه اليومي الأول هو الشوق في متابعة اخبار النضال الإنساني من اجل التغير و التحول .

ذات يوم من ايام الشتاء القارس البرد في ( النقرة) جلسنا ، مظفر و انا تحت شمس ما بعد الظهيرة ، حيث الإحساس بالدفء ، خاصة في لحظات تناول كأس من الشاي السيلاني الحار، من مصنوع شيق لشيوعي شيق بحديث يومي طريف في السرد و المحاورة و توليد صور و معاني الاحداث الجارية  . تطرقنا باحاديث عن الام السجن و عن الثورات و التمردات في دول عديدة من العالم  كما تحدثنا عن اوضار نفوسنا نحن السجناء مقطوعة عن العالم . لم تخنقنا احاديث  واقع  احلامنا الوردية في العيش ببلدٍ ،  يدرك بعضه البعض الآخر . لم يكن في اخبار ذلك اليوم و احداثه ما يمكن ان يشغل السجناء بمتابعته ، كما هو الحال في اغلب الأيام ، حيث  كل جزء من السجن  يتأثر بالجزء الآخر و يؤثر به.   كان كل انسان فيه يشعر ان الدنيا جمالٌ يمكن ، بتضحيات  الشيوعيين  وأخلاقهم و إصرارهم الوصول اليه ،  كما وصل اليه ، يوم أمس ،  جزء من نجاح نضال  الشعب الهندي في ولاية ( كيرالا) بجنوب الهند ، حسب ما جاء بأخبار النشرة السجنية  الصحفية ، المقروءة في جميع القواويش ، صباح اليوم ، بوقتٍ واحدٍ لم يتجاوز الساعة الثامنة ، أي قبل تناول وجبة الريوك ، بدقائق.

كان مظفر النواب يعرف أنني منشغلٌ في الليلة السابقة ، بل في كل ليلة ، بانتزاع الأخبار و تقاريرها بحكم عملي محرراً في النشرة الصحفية السجنية ، اليومية. طلب مني تزويده بمعلوماتٍ أوسع عن الفوز  الكبير ، الذي حققه الحزب الشيوعي الهندي في  انتخابات ولاية ( كيرالا) للمرة الثانية في البلاد الهندية ، الشبيهة بالقارة .   حدثته بالتفاصيل من دون الإحساس بأي طائل لأنني كنتُ أنا المحرر ، الذي التقط هذا الخبر ، في الليلة البارحة ، و ربما جاوزت الحد في مديح الشيوعيين الهنود ، بصورة لا يقصد من ورائها تمجيد أساليب النضال السلمي بقصد بناء الاشتراكية في العالم الثالث.  لكن  هذا الخبر اثار ، في ذلك اليوم ، جدلاً واسعاً بين السجناء ، مما أوجد حالة كبيرة من اللغط  السياسي   و الخلاف الفكري . لكن ذلك الجدل توقف سريعاً ، حيث كانت الاستعدادات لمهرجانٍ ثقافيٍ كبيرٍ ، مساء اليوم ، احتفالاً بذكرى تأسيس الحزب الشيوعي . كان مظفر مكلفاً من قبل المنظمة الحزبية السجنية بواجبات كثيرة في هذا المهرجان . المهم اعتبر مظفر ما سمعه ، مني، عن تفاصيل الخبر  الهندي السار بأنه آمال و فضائل و استقامة و انتصارات يتمناها الى ولايتي (البصرة) او الى ولايته (الكاظمية)..!  كان جالساً معنا الرفيق نصيف الحجاج ، الذي اعلن عن شغفه بأن يكون مسقط راْسه ( كوت الحجاج) بالبصرة  عقلاً و قدراً ( كيرالياً) من خلال تحوّل مسقط راْسه الى قدوة بصراوية ، بينما توخى  مظفر النواب ان تكون الكاظمية او البصرة ، او كلاهما، مثل ( كيرالا) في عصمتها و مناعتها و قوة صوتها ، خاصة و ان تجربة بناء المجتمع الحر في سجن نقرة السلمان قد تم تنفيذها بأيدينا ، نحن السجناء ، الشيوعييين.  

لم يتحدث أي واحد منا عن فراق الحبيبة زوجة ام اختا او اما ليس من وجود للانانية في اخلاق السجناء الشيوعيين المرمية جثامينهم الحية بنقرة صحراوية معزولة عن العالم كل واحد منا نحن الباحثين عن دفء الشمس لم يتحدث  عما يكشف فيه عن حبه و غرامه كان يميل الى التسليم بحاسة الصمت  .

لا تحمل الجلسات مع مظفر النواب اي شكل من اشكال ترف الحديث و نعمته او تناول لمحات حياة المرحلة الشبابية لكل سجين من سجناء النقرة لذلك فان الجميع يشعرون ان احاديث الحب و الغرام ليست مناسبة في جلسات السجناء لانها أولا و أخيرا لا تؤدي لغير القلق و الاضطراب النفسي كل من يجالس مظفر فان المهمة الوحيدة هي اتقان أداء المحبة لشعر مظفر وعدم نسيان اخلاق القصيدة المظفرية . تلاحقنا بكل حديث عن الشعر الشعبي و بكل متعة الحديث عن قوة حواس (مظفر النواب) القريبة ليس فقط من أصحابه الشيوعيين ، بل انها قريبة من كل الناس ، من ارفعهم و أحطهم ، من الذين يدركون لذة الشعر الشعبي او من الذين لا دراية لهم بطيبات شعرائه . وجدنا أنفسنا اننا نتذوق هذه الطيبات المظفرية المرجحة في خصائص ما نشره من قصيدة شعبية ذات مزايا فيها خفة الأحلام . 

لم تكن قصيدة (الريل و حمد ) قولاً في وصف امرأة جميلة او رجل وسيم . لم تحمل دواء لعاشق او عاشقة . لم تقدم اية صورة ناطقة بالحب الشخصي لشاعر القصيدة الريلية كما انها لا تتمكن من تصوير باطن النفس مهما كان الوجه ظاهرا بشعاع الحب  كانمظفر النواب طيلة وجوده في النقرة او في أي سجن اخر راضيا عن طفولته بجميع احاديثه الاتية جوابا لبعض أسئلة لسجناء كانت حالة الحب الشبابية مبهمة ربما تغطيها مسحة نوابية متعمدة او عن غير قصد  لم تكن لها علاقة بضياع مال او نصيب ، لم تكن عتاباً على شيمة دنيا الحب و لا تخلفاً او اختلافاً عن ظنون بين خليلين.  كانت قصيدة فيها الكثير من الوفاء الى الحبيب. فيها عهد محفوظ . في صبر على الفراق و الهوى .. فيها امثال يمكن تحويلها الى عبر . فيها أقوال منصفة ، جامعة، متشعبة. فيها قضية معروضة امام محكمة الاخلاق .. فيها تُبان المرأة وفيّة ، صادقة. و لأن اغلب السجناء في (النقرة) هم من لحمةِ نسبِ واحدٍ،  هو النسب الشيوعي. ساهم  التقارب بينهم وجود شعر  الشاعر مظفر النواب ، كان موحّداً لهم ،  ليس فقط من الناحية السياسية،  بل كان الميل العام و سليقة السجناء ، كلهم ، تدفعهم الى الظن بأن مظفر النواب هو (العاشق الأول)  بهذا المكان و ان ناظم قصيدة (الريل و حمد) هو ، بلا شك ، افصح لسانٍ عن المحبين و العشاق العراقيين،   بهذا المكان الهمجي و الزمان المنحط عن ابسط مدلولات المدنية . السؤال المبتسم المطروح امام شاعر الكفاح و التضحية : هل أن حَذّرّهُ جاء نتيجةَ مرارةِ التجربة الذاتية ،  الغرامية،  او ان مظفر النواب  يريد ان يُبقي قصة حبه ، نائمة ،  بأمانٍ،  في قلبه،  الى الابد،  من دون ان يؤذن لأحد ان أن يوقظها و يتناولها . 

كانت انطلاقةً هائلةً من التجربة الشخصية ، في عقل الشاعر النواب ، مباشرة ، الى قلب المفهوم العام ،  عن اشكاليةٍ عموميةٍ،  تتميز بمعاناة الذات عند امرأة (قطار الليل) . إنها معاناة  ليس فيها حواجز امام النظام الشعري النوّابي . كان المكتسب الاول من قصيدة ( للريل و حمد) هو تعليم القضية الشخصية بالشعر العامي ، تعليم التاريخ العراقي للشعراء الشعبيين ، كي يتفهموا  قواعد التعبير الشعري بصورةٍ أحسن و أسرع . كانت القصيدة تكويناً نظامياً مرموقاً للعاشقين و الشعراء ، معاً، من ابناءً بلد واحد اسمه العراق ، ما زال منهجه الاجتماعي يسيح بوجهه عن (الحب الخالص) و تمجيد نفوذه بين الناس ، حتى جاء مظفر النواب لتسليح الشعر الشعبي بالديناميكية الشعرية ، الفردية و الجماعية ، بطريقة جذّابة أبدعتها طريقة نظم (الريل و حمد) بما يتوجب عليها من حيوية الشباب متمثلةً بشاعريةِ مظفر النواب و بلاغة كل بيتٍ من أبيات قصيدةٍ شعبيةٍ ،واحدةٍ ،  سمحتْ بحلولٍ اجماليةٍ لمسائل العشق الفردي. 

تيقّن الكثير  من السجناء ، من أولئك المنحدرين من مجتمع البساطة ، من فلاحي الأرياف او من الجنود وضباط الصف ،  أن الوصف المناسب للشاعر مظفر النواب ، المنطبق عليه هو لقب  (العاشق الأول) . هكذا يجب ان يكون ..!   لأن لذة العشق تقتصر، بنظرهم ،  على الشعراء لأنهم قادرون على إدامة حبل الغزل ، بين العاشق و المعشوقة ، من خلال كلام الشعر نفسه ، خاصة من نوع  (الشعر الشعبي ) .  يعتقد الجميع ان قوة مظفر النواب في وسامته و في رقيّ بدنه .. هذا الشكل  يجلب له  أعلى أشكال السعادة .  يحسدونه  حالما يخرج مساءً، بعد وجبة العشاء،  يتمشى وحيداً،  في ساحة السجن، حيث يعتقل بنفسه تفكيره ومداركه لكتابة قصيدة او فكرة معينة .

يقول الشيوعيون الفرنسيون ان لكل  شاعر نشيط قصة حب ، معلنة او مخبوءة ، كما هو حال الشاعر ( أراكَون) الذي أغرم الكثير من اجمل الفتيات الفرنسيات به و بشعره . هكذا يقال عن تشابه الشعراء بكل زمان و مكان . اول فعل مؤثر من افعال الشاعر، اي شاعر ،  هو تأثير عباراته و إشاراته و افانين  مشاعره المختلفة ، المتنوعة ، يمكن ان تجدها المرأة في عالم القصيدة ، قبل اي شيء آخر.

هكذا صارت (عيون ألزا) حباً عظيماً في مهارة الحب بقصائد اشعار بابلو نيرودا .

تُرى .. هل كان للحب مقامٌ في قلبِ مظفر النواب ..؟

هل هناك  امرأة معينة من تلك الآلاف من الفتيات المحسنات ، المعجبات، بشعرِ مظفر النواب ، بدءاً بقصيدة ( الريل و حمد)،  التي كانت تحملُ دفاعاتٍ يونانيةً و رومانيةً و إنسانيةً،  بابليةً و آشوريةً و عربية عن عدّة الحب و جماله و زينته . منذ حروب طروادة حتى اليوم صار الحب ليس ملهاة و تسلية بل من عظائم الأمور الإنسانية الكبرى ..!

لم يمتلكْ مظفر النواب مَلَكَةَ النظم الشعري و قوة التعبير اللغوي والتحدث بكلماتٍ تجلبُ له الجلالَ و الاعجابَ و حسب ،  بل يملك عينين ، جذّابتين،  ساحرتين ، ساجيتين،   لم يملكها انسان غيره.  كل  امرأة  تنظر  اليهما فأنها تحس بصعود مدّ الاحمرار الى وجنتيها ، كما يَغيرُ زلزالٌ على  قلبها ..  بعضهن يدركن ، فوراً،  انهن بحاجة الى غيثٍ من غزلهِ و حبهِ. هكذا قالت كثرة من زميلاته في اثناء الدراسة الجامعية :  ان من تنظر الى عينيه فأنها  ترى وجها يعيش في عينيها وان صورته قد رسختْ ملامحها،  في قلبها،  وفي باطن نفسها.  

 كما اخبرني احد أصحابه منذ أيام الطفولة حتى أيام نقرة السلمان ان مظفر النواب ظل محبا للمراة بطريقة مشرقة ، بوجهه المشرق و قلبه المخلص.. يحب المرأة لأنها ، بنظره ،  قرين الجمال.  اخبرني صديق النوّاب ،  السجين الكظماوي (هاشم صاحب) ان شعور مظفر النواب بالحب لم يتفجر الا حين تجاوب معه قلب احداهن و هي طبيبة اختصاص منذ عام 1962  حيث علت وجهيهما بشاشة الجمال و السعادة المشتركة . لكن الوضع السياسي العام ،  كان نقيض آمالهما ، ليجعلهما ضعيفين جدا ، محرومين ، ً في استمرار  الحب ونهايته  بالزواج ، بعد انقلاب 8 شباط 1963 ، حين فرض عليهما زماناً  اسودَ بهروب الشاعر الى ايران واعتقاله فيها و من ثم تسليمه الى السلطة العراقية الباغية و اصدار الحكم عليه بالإعدام.

 كانت اخبار هروبه و اعتقاله و محاكمته قد أوقعت على (الحبيبة) ثقلاً تعسفياً، هائلاً،  لم تستطع تحمّله .  جعلها هذا الحجر الثقيل تفقد حُسن   الطباع ونصوع حبها لحبيبها مظفر. كما عصتْ عهدها بالحب الابدي . ابتذلت حكمة الاستقلال عن رأي عائلتها الضاغط عليها بمحسناتِ زواجِ احدهم ، تقدم إليها،  خطيباً و خطّاباً،  حين كان نصيب حبيبها عام 1964 ظلام نقرة السلمان .

اصبح مظفر النواب في (النقرة) شاعراً على طريقته الفاجعة ، عاشقاً مفجوعاً، من اساطير الاولين لكنه بلفظ شعري عربي أهّلهُ أن يكون واحداً من شعراء العرب ، قبل عشرة قرون ، كأنه ممتدٌ من ذلك العصر  إلى العصر الحالي .   

في كل الوقت ، الذي قضيته مع مظفر النواب سواء في نقرة السلمان او في سجن الحلة او في بيته و في بيوت الأصدقاء وفي بيته الدمشقي،  لم اجده يتحدث عن نفسه ، كائناً واحداً او شخصاً فريداً . ما سمعته يتحدث عن مفارقات حياته الشخصية ،  بما له صلة بالأمور النسائية أو عن مجامع علاقاته حول خصوصية  مضامين الحب و مراحل الغرام،  التي مرّ بها . 

لم اسمع من الشاعر النواب أية مشاعر  عن قصة حب او غرام تعيش في أعماقه او انها أوجدت شيئاً من الضعف  او الانسحاق في تصرفاته ، سواء كانت القصة فاشلة او ناجحة . لم يتعود ان يلبس قناعاً لخدع أصحابه . ظل بكل الأحوال على حقيقته ، بأبهى حالات الصدق و الواقعية . 

حدثني هاشم صاحب ، في النقرة و من ثم في الكاظمية حين افتتح مكتباً لممارسة المحاماة كنت ازوره فيه لقضاء وقت مشترك بداية كتابة مشروع ادبي مشترك  ، لم يكتب له النور .

حدثني عن قصة حب مظفر ..  قال انها ليست معروفة لأي شخص آخر غيره . اخبرني بأن أتميّز بفضيلة الحفاظ على سريتها .

عاهدته  ان يبقى سره محفوظا بصدري لا يعتريه كشف و لا نقص و لا إضافة  فأخبرني، بما يلي  : 

صحيح ان مظفر النواب يعيش وتيرة حياة يومية أدبية – سياسية ،  ربما لا يريد تعديلها او تبديلها ، إلّا  بتغير الظروف السياسية بالبلد . كان يأنس باحاديثه مع رفاقه و زملائه و أصدقائه.  كان يريد ، دائماً،  ان يكون بمقدمة المناضلين من اجل الحرية .

هذا هو الحب بمنطق مظفر النواب .. منطق وحيد  لا يقبل الجدال.  لكن الشاعر  هاشم صاحب كاشفني بما يشغل عقل و قلب الشاعر مظفر النواب من عهود الحب و الزواج مع طبيبة اختصاص،  من عائلةٍ بغداديةٍ ، عرفني باسمها و بمكان عيادتها ، الكائن في بداية شارع السعدون .. كان قد اثقل عليها جداً خبر  اعتقال حبيبها ( مظفر النواب ) و الحكم عليه بالإعدام ما اجبرها ان تضطرب افكارها عن مستقبل حبها النوابي وأن تزيغ عقيدتها عن الاصطبار على حبيبٍ سجينٍ بأتعس سجنٍ في العالم ، كله.   تبلبلتْ خواطرها عام 1964 حين وجدت ان الانفع لعشقها ان ينتهي بالموافقة على تنفيذ طلب زواج تقدّم به احدهم لم يكن معرضاً لأي سجن  ولا تتخلل حياته مبارزة مع الدولة و الحكومة ، كما هو حال الحبيب الأول ،  مظفر النواب ،  المقبل على مواجهة الإعدام او السجن الطويل الأمد .  

كانت ذخائر المعلوماتية في احاديث الشاعر هاشم صاحب عن الشاعر مظفر النواب قد اجتذبتني لحفظها على طريقة قسم الأطباء باثار ابيقور الجليلة في ابتكارات عهود الشرف في الشعر عند الشعراء .

 كان من دأب مظفر النواب ان ينحني عند محادثته النساء و الرجال ، سواء هو  في حالة جلوسٍ او في حالةِ وقوفٍ  . بكل الحالات هو  يحترم جميع  حافات القول الصادق و يدين الكذب و الباطل  . هو مثل الكاتب الجيكي فرانس كافكا،  لا يحب تزويق او تحسين مفردات كلامه . يشتق الكلمات من اعماق صدره ليصبح كلامه بليغاً ، محفوراً في أعماق الأعماق.

اصبح  اللاشعور عند مظفر  النواب ، شعوراً ، حاداً ،  مثل كافكا ، معبراً عن قلق الانسان في عصر القوة و العقل و التطور .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

 عن زخارف اشعار مظفر النواب

الحلقة 6  

لم تكن  اشعار مظفر النواب بقصيدته ( الريل و حمد ) لهواً لغوياً، ليس  فيها حاجة من حاجات ادخال عقول القرّاء الى حالة الهدوء . كانت القصيدة تحاول تنمية وجدان الوعي و الحب في طقوس  ادخال (مجموع )الناس الى حياة (بعض )الناس أو توصيل حياة ( بعض) الناس الى ممكنات و ماديات (جميع)  الناس . انها نوع من أنواع المعاصرة المتحررة يتوق  الشاعر مظفر النواب الى ان يكون افتراض وجودها ،  نافعاً للناس في اختيار القوة الشعرية ، ذات الدفع الخاص ،  البالغ السعة على الناس. اعطانا في القصيدة صور إنبات المحبة بين الأطفال من دقة اسرار ألعاب الصغار  . حين كنت طفلاً ، بعمرٍ نابهٍ يقربُ من العاشرة أو يزيد ، اشهراً او أسابيع، لا أتردد من التخصص في التلصص على بعض صبايا المحلة الجميلات  يتقافزن ( الطُفّيرة)  في صحنِ بيتِ فتاةِ ما فوق الجميلة اسمها ، سهيلة . معها سعاد و آمنة وأحياناً أخريات  . كان ذهني ينصرف لحلِِ لغزِ و تفسيرِ أسباب اهتزازٍ جسديٍ و روحيٍ ،  حين ارى جزءً من فخذ سهيلة ، كأنني اصطدمُ بحاجز حديد . لم افهم السبب رغم مجاهدة فكري لأعرف ما هو مبهم في هذا الأمر .. كان يستحوذ عليٌ سحرٌ خاصٌ ، حالما ترتفع تنورتها،  قليلاً ، لتكشف عن جزء من بدنها يجعلني أهيم  به .. لم أكن اعرف السبب...!

مُذ كنت طفلاً ، احببت لعبة (الطُفّيرة ) وأتقنت دروسها ، النظرية ، لما فيها من طلاوةٍ وأحاسيس من بلسم القلب وما تقدّمه من حيويةٍ لا يزيد عمرها سوى لحظات . لعبة مشوقة،  مفعمة بنعمة الصحة و بتقسيم عمل القفز المتناوب بين اللاعبين المتقافزين او اللاعبات المتقافزات . وجدتُ فيها كل ما يهز النفس و يهش القلب و ينعش خيالَ من يتطافر  او تتطافر  . كنتُ أرضي نفسي بمشاهدة القافزات ، بسرية التصرف و بمنطق ما وراء الستار ،  لكن لم يكن لي توفيق المقام بمنفعة ممارسة هذه اللعبة . اغتبطتْ نفسي ، مرتين ، في دنيا ( الطفيرة) . المرة الاولى حين هبّ النسيم من تحت تنورة (سهيلة ) حين لسعتني لذّة غامضة . الثانية حين اخترقتْ وعيي ، بصورةٍ بالغة الصميم ،  حين قرأتُ الظرف و الفهم و الهمس في قصيدة (الريل و حمد) . 

لا يوجد طفل عشّاري ، من أصول محلة البجاري خصوصاً ، لم يهب عليه نسيم ( الطُفّيرة )   إلّا ما ندر .  من ذَا الذي لا تستهويه لعبة ( الطُفّيرة)  بكل المدن العراقية. .؟

مَنْ كان بإمكانهِ تجاهل تعدّد ألوان ملابس المتقافزات مع شقيقته،  في صحن داره،  او أمام مدخل زقاقها.  لا جمود و لا عصمة لدى الجميع ، أطفالا و فتيانا و مراهقين،  من تعاظم رغبة المشاركة او المشاهدة بهذه اللعبة .

 في عصر أيام الاثنين ، من كل أسابيع الطفولة ، ينظّم أطفال محلة البجاري معنى من معاني الحالة الاجتماعية، البريئة ،  حين تجد في كل زقاقٍ،  طفلاتٍ حلواتٍ،  يتقافزن بغزل بريء مع ( الطُفّيرة). حتى  ان رجال الدين في المحلة كانوا يبتكرون كلاماً حلواً يقولونه مدحاً و فخراً  عن لاعبات هذه اللعبة .  لا ادري هل يوجد طبع مثل هذه اللعبة  في الارياف العراقية او ان  لها بدائل من الألعاب القروية ، لكن  كلام (الطُفّيرة ) جاء شعراً شعبياً منظوماً في قصيدة النواب. 

تبدو اللعبة بلا غالبٍ و لا مغلوبٍ  ، في واقعها ..  لكنها ( مفردة شعرية ) غنيّة جداً بمعناها ، حين ابتكرها و همهم بها  مظفر النواب بقصيدته ، و هو بهذا الصدد من الغالبين ، رغم انني كنتُ ادرك انني الغالب بكل حالات المشاهدة . كما انها لعبة لا تتعب اللاعبين رغم ان حراكها يتطلب  وجود راكضٍ( طافر )  من فوق ظهر شخص آخر ، (مطفور ) .   انها لعبة سلفية قديمة او تراثية.. سمّها ما شئت ، غير انها  تغني ابجديات الطفولة و المراهقة  بالمتعة،  كما الطيران يغني و يسعد الحمام .

حين كنتُ في مدينةٍ هولنديةٍ ، بحريةٍ ، اول وصولي الى الاراضي المنخفضة عام ١٩٩٧ شاهدتُ بعيني ، الشبان و الشابات ، الى جانب الأطفال ، يجتمعون و يتواترون و يتقافزون ( الطُفّيرة) بالطريقة العراقية . انتابني ،  وقت ذاك،  شعور عميق انه لا توجد حواجز بين سلسلة المخلوقات الانسانية ، الطفولية و الشبابية ، بين  العراق و هولندا و ربما بالعالم كله . .  ما كنتُ مستغرباً في غربتي و لا وجدتُ وعورةً في قبول فكرة أن احد شعراء هولندا من شباب قرية (  ديكوخ) كان قد صاغَ قصيدةً ، قبل شهرين  من تاريخ وصولي اليها،  قال فيها أشياء الخير عن لعبة (الطُفّيرة الهولندية) .

لم يتوفر لي مجال المقارنة بين قصيدة الشاب الهولندي و قصيدة الشاعر العراقي  مظفر النواب لأن   المواطنين الهولنديين من قرّاء الشعر ،  يتميزون بالمطالعة الشعرية الشحيحة ، بينما المواطنين العراقيين من قرّاء الشعر الشعبي خصوصاً ، لا يرتوون إلّا بتمارين تقولها لهم  اشعار الشعراء ، منها اشعار الريل و حمد .

عرفتُ شيئاً مركزاً مفاده ان (الطُفّيرة )  هي لعبة عالمية،  ليس  عاراً ، فيها،  او توعّراً .   قبل هذه المعرفة كان   صديق   مصري ، فنان سينمائي، قد اخبرني عام 1979    ان قرّاء الأقاصيص المصرية يقرؤون ، ايضاً، عن صنفٍ من أصناف الألعاب المصرية تشبه ( الطُفّيرة ) في العراق . كان ذلك خلال  زيارتنا لمنطقةٍ شبه  ريفية،  جنوب القاهرة،  شاهدتُ فيها اطفالاً مصريين يلعبون هذه اللعبة   او ما يشبهها.  من هنا جاءت إجادة  الذوق في اللهجة و الصورة ، في  اختيار مظفر لزبدة  (الطفيرة  المُضافة)  الى حلاوة العسل في حوض قصيدته الشعبية الاولى ( الريل و حمد). كما سمعتُ مديحاً ، مأثوراً، نادراً، من الناشطة  المصرية ، الدكتورة صافيناز كاظم ، التي قابلتها  مع مظفر النواب عام ١٩٧٠ في دمشق . اقول ، صراحة ، انني كنتُ مبتهجاً ، بغاية الابتهاج ، لأنني حزرتُ  الغيب في  خوض موازين مظفرية، داخل القصيدة الشعبية لكي تضع  ( الريل و حمد)  على رأس قبيلة الشعر الشعبي  ، العراقي ، الحديث.  

لم يكتب الشاعر مظفر النواب ، قصيدة ( الريل و حمد)  إرضاءً للحزب المنتمي إليه ولا رغبةً في ان يحصر نفسه بقضية سياسية معينة ، كما فعل شعراء كثّر، قبله و بعده . اراد ان يفعل فعلاً ، خالداً و اصيلاً ، من اجل ان يجعل الشعر الشعبي العراقي،  مثل الشعر الفصيح،  متمتعاً بأزهار الربيع و التجديد فجاء برياحين الجمال الشعري بقصيدة الريل و حمد بشواهد لعبة ( الطُفّيرة) المشتركة بين الإناث و الذكور .   

 لم يكن  مظفر النواب يريد من كتابتها ان يلتصق بمجتمعٍ معينٍ،  كما لم يكن يريد ان يكون مثقفاً،  تابعاً . بل وقف من دون خطة و لا تخطيط الى جانب قضية  معينة من قضايا  هموم المرأة  و هموم الرجل ، ايضاً، في زمانٍ كان يقال فيه ،  ان عشق المحبين يعطّلهم عن إقامة الصلاة و فروض الدين وربما يؤدي الحب الى (الشرك..!) . لم يرم صراحة او إشارة الى ان  هذه القضية  ذات  موضعٍ معينٍ في مسيرة الدولة او حتى المجتمع   ،  اي من دون الإشارة الى ان عقدة هذه القضية من مسؤولية الدولة او النظام السياسي ، كما هو حال غالبية قصائده الشعبية الاخرى .

كانت قصيدته الشعبية تنميطاً ثقافياً عفوياً حيث ناتج القصيدة عبّر ، بنفسه، عن نفسه،  باعتبار موضوعها من الموضوعات الاساسية في المجتمع العراقي و هي (مسألة الحب ) المسألة القريبة من جان جاك روسو ، المرتبطة بالخلفية الاجتماعية المضطهدة جداً في الريف العراقي . انا أظن ان اي تعليل ، لا من النوع السهل و لا من النوع المعقد قد فرض نفسه على كتابة تلك القصيدة . كان دافعها الأول و الأخير هو تعليل من نوع هادئ عن التذمر الاجتماعي - الانساني و نتائجه . كان سخط الناس ليس قليلاً على أولياء أمور الشابات و الشبان ، الذين تدفعهم قلوبهم الى الحب و المحبة . كان الحب مثار قلق و شكوى بين أفراد العائلة ، لكنه انتقال من القبيلة و العشيرة و انفصال عن واجباتها و حقوقها سواء كان الانتقال داخل القبيلة و العشيرة او خارجها. كان ( الحب) مرفوضاً في المذاهب العشائرية المختلفة . اقل احتمالات القضية هي السكينة و القنوع ، للتستر ، على الساخطين ، الناقمين، من سكان القبيلة الرافضين للحب بين عاشق و عشيقة . لا مساواة بين أهل المدينة و أهالي الريف .  يمكن ان تنتهي علاقات الحب و العشق في المدينة بالزواج ، بينما تنتهي نفس علاقة الحب بين  رجل وامرأة من سكان الريف بعلّة القتل و الاقتتال و الفصل العشائري . كان مظفر النواب قد دَنا بهذه القصيدة دنواً عميقاً الى قلوب الناس العاشقين و الى نار العشق نفسه ، التي تجبر الانسان على الدخول الى (جنة الحب ) مزحزحاً اليها (بالنار) . ربما يشعر كاتب الشعر نفسه ان مقامه هو (الحب) ، الذي لا يباعد بين النار و الجنة  لأن الحب كما في الريل و حمد ينطلق من روح الانسان و من شوقه الشديد الى المرتجى من الحب و الحبيب ، سعادة العيش و الحياة ، مهما تطاول  الليل بقسوته على العاشقين ، كما توضح المطربة المصرية ام كلثوم بأغلب أغانيها ان الأرق و التضحية و الخصام هي من زعزعتْ  نوم العاشقين و اقتلعتْ أشجار آمالهم . من النادر ان لا يرتفع سيف مزعج على رقاب العاشقات اولاً و بعض العاشقين ، ايضاً  ، رغم وجود الكثير من القلوب العراقية المقروحة من تباريح الحب و العشق  . كان الشاعر مظفر النواب يحس بلواعجها  و يعبر عنها بفصاحة شعرية ، شعبية ، خلّابة . ربما صداقته المتنوعة الأشكال و الأشخاص قد فتحت أمامه تواريخ قصص الحب و الغرام بلهجات قبائلها  ، الظاهرة و الباطنة.  اتقن النواب  ، و لا ادري كيف ..؟ معظم اللهجات العشائرية في وسط و جنوب العراق . كما ان صداقته البالغة الاحترام و الشدة مع رفيقه في درب النضال ( سعدي الحديثي) قد أغنته بشيء كثير من لهجات عشائرية في غرب العراق و في شروح معيشة البدو الرحّل بصحرائِه. 

جعلتْ الحروف الشعرية تفيض بقلم  الشاعر مظفر النواب، دافعاً بقصائدهِ بعد ظهور (الريل و حمد) الى شعر الكفاح الشعبي و محاولة جعله فناً من فنون الحركات الاجتماعية - الثورية لتجميع الحركات الشعبية الساخطة على كل نوعٍ من انواعِ الفاشية العراقية . خاصة وان مظفر النواب كان إنساناً متكامل الاخلاق يتلقى أصحابه و اصحاب أصحابه بالابتسامة و البشر تعبيراً عن حبٍ حقيقي  في قلبه. من هنا صار أليفاً ، رقراقاً، في حب (الجماعة ) ، كما صارت  الجماعة المحبة لمظفر النواب ليست ضئيلة المساحة و الاهواء . كان حجمها و اثرها و تأثيرها اكبر من كل مكسب و ربح لأن صوت مظفر كان حسه منتشراً ، بكل مكانٍ في مدن العراق و اريافه،  بعد صيرورة قصيدة الريل و حمد مفخرة الطبائع و الاخلاق و الاعمال و الاقوال في البلاد العراقية . كنتُ أجد ملمساً صوتياً رقيقاً حين يلامسهً (غناءً ) صوتٍ فنيٍ راقٍ ، لا يطاوع إلّا  صوت سعدي الحديثي. كما وجدتُ وسيلة الحرية في اداء الصحفي الراحل (سعود الناصري) حين طاوع طلبي و رجائي بغناء قصيدة  الريل و حمد على سلطان تلحينه على عزف آلة العود . استجاب  في زيارته الى لاهاي - هولندا عام ٢٠٠٠ فأدخل ضرورات السرور الى قلوبنا،  نحن المستمعين،   في بيت الصديق رزاق الحكيم . كانت دائرة الحرية بتلك العزيمة تضم ام فرح و الضيفة الفنانة (  غزوة الخالدي ) و ياسين النصير  و حامد العاني  مع مجموعة صالحة غابت عن ذاكرتي الشائخة في هذه اللحظة . 

لا عجب و لا غرابة في سعة و سرعة انتشار قصيدة( الريل و حمد)  في الكليات و المدارس ،  لم تقيّدها قيود الانتشار في المدن العراقية و الارياف. كان هوى القصيدة و إشارات كل مفردة من مفرداتها و سبل تخطيها أغلال الشعر الشعبي ، قد حطّم جميع القيود لانتشارها في القلوب السليمة الصافية .

 أدى نشر قصيدة الريل و حمد الى أصداء بعيدة المدى،  ليس بين الشعراء الشعبيين  و بين شعراء الفصحى ، فحسب ، بل بين المثقفين العراقيين ، عموماً. يشهد على ذلك ليس فقط الانتشار الواسع لنص القصيدة،  بل الأكثر من ذلك المناقشات النقدية و غير النقدية ، التي دارت حول القصيدة و حول شاعرها مظفر النواب ، في الكليات و المدارس و المنتديات الثقافية ببغداد و بالألوية كلها. انتقلت القصيدة إلي  بواسطة الصديق و الرفيق اسعد الشبيبي ، الذي سرعان ما ابلغني انه يحفظ القصيدة عن ظهر قلب . اخبرني ايضاً انه حفظها ، بسرعة،  ذات يوم  جمعة،  في اثناء قضاء العطلة الأسبوعية . قال لي انه وجد في هذه القصيدة مفاهيم شعرية جديدة في الشكل و المضمون . من شدة سروره بتلك القصيدة انه قام بترجمتها لزوجته الانكليزية  المعروفة بحبها الجمال و الحرية في القصائد الشعرية . قالت ، ذات يوم ، جواباً على سؤال، من ضيوف زوجها و أقاربه ،  عن رأيها بهذه القصيدة فأجابت : انا لا املك  قدرة  التقييم .. لكنني اؤيد سروركم بمقام صديقكم الشاعر و شعره .  

من خلال قراءاتي المتتالية للقصيدة ، ذاتها،  اندفعتُ الى الاهتمام ، بصفة خاصة ، بالشعر الشعبي . أردت التعرف على ملامحه و مناهجه و على رؤيته . شغلتني كثيراً بعض استكشافات الشعراء الآخرين في هذه القصيدة من مثل الشاعرين سعدي يوسف و اسعد الشبيبي ، اللذين كان  يربطهما مع مظفر النواب  انتماء الحزب الواحد ، الحزب الشيوعي . لكن بدأت اقرأ و اطلع على آراء الكثير من الشعراء ، غير الشيوعيين . بعضهم كان عدوا للشيوعية و البعض الاخر كان يحمل منظومة قيم سياسية و اخلاقية و ادبية ليست على وفاق مع الشاعر مظفر النواب ، لكنهم رتبوا موقفهم من هذا الشاعر على وفق أصول و فصول الموروث القيمي و الاخلاقي في قصيدة الريل و حمد . هكذا برهن النوّاب بواسطتها ان عقليته الشعرية متعددة بتكوينها،  و ناضجة في بنيتها،  و ثقافية - مستقبلية في تدوينها،  كأداة  رئيسية في الثقافة الشعرية - الشعبية - العراقية. 

ملخص القول عمّا وجدته و ما وجده آخرون ، ان (قصيدة الريل و حمد) لم تكن مجرد تجديدٍ في الشعر الشعبي ، بل خلقتْ و قدّمتْ قالباً اسلوبياً، مدهشاً و عجائبياً لمضمونٍ مبتكرٍ على قاعدةٍ من الفانتازيا الواقعية . هذا التطور الشعري وفّر بدايةً جديدةً لإنقاذ المشروع الإبداعي في الشعر الشعبي ، منذ بدايتها الانتقالية،  المنهجية ، حيث تمكّن مظفر النواب،  بهذه القصيدة،  ان يؤثر تأثيراً جاذباً على أساس هذا التطور الهام في القصيدة الشعبية . كذلك محاولة توظيف التراث في الاخلاق و العادات و القيم داخل كينونة القصيدة الشعبية . 

لا بد لي من القول هنا ، ان متابعاتي لقصائد مظفر النواب الشعبية منذ (الريل و حمد ) حتى الآن،  أكدت لي أنها  ظلت تعبّر عن وجوده الانساني من خلال الشعر ، من خلال القصيدة الشعبية و الفصحى . لكل كلمة او واقعة،  عواملها في المكانة الشعرية،  بقصائد مظفر .  يجد نفسه عائداً ،عند كل حادث و حديث ، الى التراث الأدبي ، المتجاوب مع عصر الثورة الوطنية بعد ١٤ تموز ١٩٥٨ و ما جاء به الانقلاب الأسود في ٨ شباط ١٩٦٣ وما بعد ذلك من حكومات و احكام القمع و السجون و القتل و الحروب الخارجية و الداخلية . كان مظفر النواب مبدعاً حقيقياً يحدث انبهاراً ، ليس بكل مرحلة من مراحل عنف الدولة ضد الوطن و المواطنة ، بل بكل قصيدة من قصائده المتصارعة مع الوعي الشعبي بأنواعٍ مختلفةٍ من قيم اللغة الشعبية او الفصحى  في زمانٍ قادحٍ بآلام المنفى  وغل الغربةِ عن وطنٍ صارتْ  نخلته شوكةً على أرضه   ، كل شيء فيه مسلوب  .

يملك مظفر النواب عينين ثاقبتين،  ساحرتين،  نفاذتين الى اعماق الشيء و الشعر و الناس ، كلهم . يرى ارض الكوفة مثل ارض الزبير ، مثل سنجار ، مثل الجبايش، مثل حلبجة ، مسكونة بالرؤية و الفجيعة لا يأمن الناس فيها من وحشة حكامهم المغطاة وجوههم بالسكاكين المسمومة .  كان يرى  مدينة بغداد فقيرةً بعكس ما يريدها الله . كان يرى مسألة الحكام الحمقى و عداوتهم بعينٍ ليستْ متجبرة أو سارحة . كانت نظراته  بنفس سحر و ثقابة  و نفاذة عيون بعض الشعراء العالميين المعاصرين . اذا كانت سنوات فترة الخمسينات من القرن الماضي ،  مليئة بالوعي السياسي ، فإنها كانت ، ايضاً،  قد شهدتْ ملامح شعرية - شعبية  ، جديدة على وفق ما حقّقه مظفر النواب من طفرةٍ  أعطتْ الى الكلمة الشعرية نهوضاً جباراً،  كان قد أعطاه جان بول سارتر الى الدلالات المأساوية في جميع كتاباته و كتبه في فترة الخمسينات الفرنسية . حيث ازدانت سطيحة مكتبته بالجمع الزائد عن المعلومات الواسعة المفعّلة عن (الفلسفة  الوجودية). طاف الشاعر مظفر النواب بقصيدة شعبية مهجهجة استقصرت زمان اخلاص الحبيبة لحبيبها بذاكرتها البهيجة . أدهش مظفر النواب سكون الشعر الشعبي بقوائم راكبته العزلاء ؛ (الريل و حمد ) محققاً طفرةً شعريةً ليست منعزلةً عن فعلِ المستقبل الشعري . كما استطاع مظفر النواب بهذه القصيدة تحقيق هدفين في ان واحد :

 الهدف (١) انه استطاع ان ينقذ الشعر الشعبي من أزمته .. وهي من شقين، أزمة كتابة  وازمة علاقة مع الجمهور . كانت قصيدة (الريل و حمد) حركة بهذا الاتجاه .

اما الهدف( ٢)  فهو ان مظفر النواب بقصيدته التجديدية ، الوثابة ،  حقّق في  الشعر الشعبي عملية استرداد جمهوره الحقيقي الواسع ، خاصة بعد انبهار حركة الشعر الشعبي العراقية بموازين التجديد النوّابي  و استقامة هذا الشعر بفرصٍ عظيمةٍ في التطور على يد الكثير من الشعراء الشعبيين المعاصرين .

ان إرادة الوجود الشعري لعددٍ غير قليلٍ من الشعراء الشعبيين ، من اصحاب ارادة ( القوة) في مجابهة الظلم  ، و من اصحاب ارادة المعرفة في مجابهة ( الجهل) . من دون ذلك ، و من دون جهود وجلجلة التطوريين الثوريين من أجيال الشعر الشعبي المتعاقبة،  المخصوصة بنهج الحيوية الفائضة بتجديد مجربات العقلية الشعرية – الشعبية ،  حيث يتعزز ، بجهودهم ، مسير مادية واقع الشعر الشعبي ، الى حد تحرير (روح) و (جسد) القوى النفسية ، الشعرية و  الجماهيرية ، في حركتها و محركها لبناء مجتمع أفضل .  

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

عرض مقالات: