يحمل بؤس واقع مجتمعنا العراقي، في مرحلة إنحطاطه الراهنة، يحمل العديد منا على خلق صورة زاهية، مشبعة بالحنين الى الماضي القريب، تعتم على ما كان فيه من بؤس واضطهاد وظلم. صورة لا تذكر من ذلك الماضي سوى حالة الاستقرار - الركود - ومظاهر التحضر الجنينية، والحرية النسبية التي تتمتع بها بعض شرائح الشبيبة في مناطق محدودة من العاصمة، فيما يتعلق باختيار الملبس والمأكل والمشرب وارتياد فضاءات ترفيه، دور سينما ومسرح، وخدمات عامة بمستويات متواضعة. وينشر أصحاب هذا الميل صورا من أرشيف تلك الأيام لساحة أو شارع نظيفين، ومتنزة انيق ليس له ما يماثله في طول البلاد وعرضها، وفتيات جميلات غير مسربلات بالجبب والحجاب والنقاب، ويوهمون أنفسهم ويحاولون إيهام من يتوجهون إليه بذلك الخطاب أن ذلك هو شكل الحياة في الفترة التي يحنون إليها.

في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان سكان الأحياء الشعبية التي يسكنها الملايين من المعدمين، مثل الثورة والشعلة، ينبهرون أيما انبهار بمظاهر الرفاه والانفتاح البسيطة التي يفاجأون بها حين يجدون أنفسهم في مناطق مثل المنصور والمسبح، ويتوهمون انهم قد انتقلوا الى أوربا، ويتهيبون ارتياد بعض الأماكن فيها.

وحتى في تلك الجزر المرفهة وسط بحور البؤس المحيطة بها، كانت تشن، بين آونة وأخرى، حملات بوليسية، ضد الشبيبة الذين يتمتعون بحرية نسبية فيما يتعلق بمظهرهم وملبسهم، فتقوم الشرطة المزودة بالمقصات وعلب البويا، بقص شعر الفتيان، الذين اختاروا ان يطيلوا شعرهم، ويطلوا بالبويا سيقان الفتيات اللواتي تجاسرن على ارتداء فستان ترى الشرطة انه أقصر مما ينبغي. وللجواهري قصيدة شعر موجهة الى وزير الداخلية آنذاك صالح مهدي عماش يعاتبه فيها على تلك الإتهاكات للحريات الفردية جاء فيها:

نُبئتُ انكَ توسعُ الأزياء عتاً واعتسافا
وتقيس بالافتار أردية بحجة أن تنافى
ماذا تنافي، بل وماذا ثمَّ من أمر ٍ يُنافى
أترى العفافَ مقاسَ أردية ٍ، ظلمتَ أذاً عفافا
هو في الضمائر ِ لا تخاط ُ ولا تقصُّ ولا تكافى
من لم يخفْ عقبى الضمير ِ ، فمنْ سواهُ لن يخافا.

هذا فيما يتعلق بالحريات الشخصية، وحين نتمعن في قمع الحريات الفكرية والسياسية فليس بالإمكان نسيان، عمليات بتر الألسن بالمعنى الحرفي وليس المجازي، وصلم الأذان ووشم الجباه بكلمة جبان، غير أقبيية التعذيب والقتل والمقابر الجماعية، والحروب الداخلية. أما التفاوت الطبقي، والمناطقي بين مراطو المدن وأطرافها، بين الريف والمدينة، فلا يختلف إلا قليلا عما هو سائد حاليا.

ليس المقصود من التذكير بهذه الحقائق تجميل الحاضر الأكثر قتامة، والمضمخ بالكوارث، بل التعامل مع الماضي، كما الحاضر، تعاملا موضوعيا ينأى به عن التجميل وكذلك عن التشوية. فالحاضر، سواء إعترفنا بذلك أو لم نعترف، هو أبن الماضي بشكل من الأشكال، وإن لم يكن نسخة منه، ولولا أخطاء الماضي ومساوئة ما كان للحاضر أن ينحدر هذا الإنحدار. إن تطلعنا الى مستقبل أفضل ينبغي أن يقترن بتحررنا من أغلال الماضي. ومن أيه تخيلات زائفة عنه.