تجاوز السياق الطائفي والمذهبي وبناء عقيدةٍ للجيش قائمةٍ على المواطنة والانتماء الوطني العراقي هما وحدهما الضمان لحماية المصالح الوطنية واستقرار النظام السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي. و يساهم بناء جيش وطني في الابتعاد عن فكرة تقسيم الدولة ويفتح أبوابا لخلق نسيج علاقات جوار عربية وإقليمية ودولية لخدمة القضايا الوطنية العراقية ، كما يمهد الطريق لقيام المؤسسات القادرة على إدارة المدن والمحافظات بدلا من الميليشيات التي أدت إلى تفكيك البنى التحتية الاجتماعية والمؤسساتية والفكرية والعسكرية والاقتصادية وأصبح لدينا دول داخل الدولة العراقية الام. ثمّة استثناءات تجعل من الجيش محل مقت الشعوب، وتنسفُ تلك الصورة المُشرقة والرّمزية التي يحتفظ بها. لعل إقحام الجيش في السياسة من أهم تلك الأسباب، دخول الجيش في السياسة يجعله في خط التماس مع الشعب مُباشرةً، أضف إلى ذلك دخوله في حلقة ولاءات ضيّقة لاشخاص وأحزاب على السواء . إنّ عدم استقلال المؤسسة العسكرية عن السلطة السياسية وكذلك غياب رقابةٍ أمنيةٍ وقضائيةٍ على أداء أفراد الجيش يدعم لجوء المدنيين إلى البحث عن الأمن في فضاءاتهم الخاصة بطرقهم الخاصة.
في كثيرٍ من البلدان التي تعيش حروبًا إثنيةً وطائفية، يتمتع الجيش، إضافةً إلى الدور العسكري، بمهاراتٍ لشراكةٍ فعّالةٍ مع السلطات المدنية والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني ككل، وهو ما يُعرف عالميًا باسم التعاون المدني العسكري وهذا يستلزم خلق القدرة على العمل داخل القوات المسلحة للانخراط في الخدمات الاجتماعية من خلال استراتيجية تعاونٍ مدني - عسكري من أجل بناء السلام وتعزيز الاستقرار.
الميليشيات في العراق نشأت بعد الفوضى والفراغ الذي أعقب الاحتلال عام 2003 وحل الجيش من قبل المحتل الامريكي . وهذه المليشيات تتداخل بشكل كبير ثقافياً ودينياً وسياسياً مع السكان المحليين وكذلك مع الدولة العراقية. حتى وأنّ بعض قادة الميليشيات الشيعية قد تولوا مناصب وزارية، كما وأنّ مقاتلوها قد خدموا – ولا يزالون يخدمون – في الجيش والشرطة. عملت هذه الجهات المدججة بالأسلحة والغنية بالموارد بشكل مستقل وتحدت الدولة في مناسبات عديدة. فهي لا تتصور قيام الدولة العراقية، لأنّ دولة أقوى -التي تحتكر استخدام القوة وتكون المؤمن الأساسي للخدمات وتقيّد الشبكات الموروثة استناداً إلى الطائفة والعشيرة– من شأنها أن تضعف بشكل كبير العديد من الميليشيات. حتى أن داعش أعلنت نهاية نظام الدولة القومية الذي ساد منذ القرن الماضي في الشرق الأوسط. إلا أن التعامل مع الإرهابيين يكون بشكل مباشر أكثر مما هو مع الميليشيات.
في بعض الأحيان، قد اختارت الميليشيات أشكال تصالحية وغير عنيفة للجدال، من خلال صناديق الاقتراع على سبيل المثال – ولكن غالباً ما كان يحدث ذلك عندما كانت الدولة العراقية أقوى. يجب أن تُجبر الميليشيات على الاختيار بين عملية مأسسة تعترف بوجودها ومواجهة مسلحة لا يمكنها الفوز بها على المدى الطويل. من أهم المُنجزات الوطنية في أي بلد، وأكثر مؤسسة محَط الفخر والاعتزاز وتحظى دائماً باحترام الشّعوب هي مؤسسة “الجيش”. عندما تختلف القوى السياسية بمشاربها، تكون مؤسسة الجيش الوطني حلقة الوصل بل والمرجعية للجميع. للجيش رمزيّة خاصة عند الشعوب بخلاف الأمن والداخلية. فالثانية قريبة منهم وكثيرة الاحتكاك بهم، أضف إلى ذلك الانتهاكات التي تقوم بها قوات الأمن في حق المواطنين. أما الجيش فهو مُسخر لحماية الوطن من الأخطار الخارجية، ونادراً ما ينزل إلى الشارع، الأمر الذي أكسبه هيبةَ واحترام الجميع بلا استثناء .
بعد ما مرت به بلدان الربيع العربي من أحداث كنا نسمع عن خلافات بين القوي السياسية فيها، إلا ليبيا، كانت هي الوحيدة التي يطلق علي خلاف القوى السياسية فيها صراع ميليشيات مسلحة. وأصبحت الكلمة العليا لمن بيده السلاح والكلمة الأعلي للفصيل الذي يملك سلاحا أكثر، وأصبح سفك الدماء سباقا محموما لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكتسبات علي الأرض، ويمكنك أن تتخيل المشهد بهذه الصورة في ظل وجود عشرات من الجماعات المسلحة التي تنتمي غالبيتها إلي تنظيم القاعدة ولو انتماءً فكريا علي أقل تقدير. لكن السبب الحقيقي وراء احتدام عمليات العنف في الأيام الأخيرة على وجه التحديد يكمن في نقطتين. الأولي: أن هذه المليشيات تريد أن تثبت أنها أقوى من الجيش الوطني وجهاز الشرطة، وبالتالي تحل محلهما، والشارع هو سبيلها إلي ذلك. أما النقطة الثانية فهي دخول الولايات المتحدة علي خط الأزمة في ليبيا لتستفيد منها كما هي العادة بما يتفق ومصالحها الداخلية. ونفس الشيء اليوم في العراق حيث زعماء الميلشيات لهم اليد الطولى ويهم من يؤثر على صنّاع القرار في البلد اذا ماقلنا انهم هم من يقرروا ويعتقلوا ويغيبوا كل صوت معادي لهم. وتلك المعادلة المعقدة لا توجد قوة على الأرض قادرة علي فك شفرتها سوى وجود جيش وطني قوي يعمل تحت قيادة موحدة و قادرة علي مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وسد ثغرات الأداء السياسي الضعيف والمرتعش. ويبقي الدرس المستفاد من كل هذه الأحداث هو أن التهاون مع الجماعات الإرهابية وحتى الميلشيات المنفلة يهدد مصير الأوطان حتي وإن بدا مسكنا مؤقتا لأوجاع ديمقراطية لسنا علي استعداد لدفع فاتورتها الباهظة.