الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هما حكّام الخضراء وعبد الكريم قاسم، وما بينهما هو الأخلاق. وبمنطق سيكولوجيا الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.

 ولقد تابعت حكومات ما بعد التغيير من (2005) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن حكّام الخضراء لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوما واحدا استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!

ان اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال:(لأن سمو اخلاقه ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع).

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61)، واستئثاره بالسلطة ، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات. ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين السياسيين وعودة المنفيين وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني الذي استقبله اهل البصرة بالأهازيج.. ولكن، حتى أبغض اعدائه، لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين. فلم يطل لحية وما لبس عمامة.

والحقيقة التي تسكن اعماق قلوب حكّام الخضراء أنهم يكرهون عبد الكريم قاسم، لأنه يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته. فالرجل كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة. وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم. وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع. ولقد منحه العراقيون لقب (ابو الفقراء).. لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما حكّام الخضراء حولوا الوطن خرابا ، وافقروا 11 مليون و400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020)، وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لابو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة كلنا نبوك من القمة للقاعده).. ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد.. حيتان !

ولهذا فهم يخشون احياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من اعمارفي أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار، وأخرى تخزيهم في اربعة اضعاف مدة حكمه!. فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى.. ولهذا فهم ينؤون عنه.. لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم. والمخجل ان كثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا ، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي.. ولا يخجلون!

 وحكّام الخضراء فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم.. اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة.

وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم.. لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي.. دكتور وبروفيسور.. بلغ الستين!، فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب(شؤون اجتماعية)... نزيهة الدليمي(بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تاسست في زمنه.. الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي.. فأجابهم :(عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع).. فيما اعتمد الطائفيون مبدأ الانتماء الى الحزب والطائفة في المواقع المهمة بالدولة وان كان لا يمتلك كفاءة ولا خبرة ولا نزاهة.

وكان العراق في زمانه.. دولة، فيما صار بزمن سادة الخضراء دويلات، بل ان كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي او ذاك، وما كانت فيه دولة عميقة او ميليشيات. وكان عبد الكريم محبّا للعراق ومنتميا له فقط، ولهذا كانت المواطنة، بوصفها قيمة اخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين، فيما انهارت بزمن الطائفيين، وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن.. وتلك اهم وأخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون.. ولهذا فان الطائفيين يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم.. ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح في الأخلاق.

وتبقى حقيقة.. أن عبد الكريم قاسم برغم مرور ستين سنة ونيف فانه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.

14 تموز 2020

عرض مقالات: