في حوالي الساعة السادسة والنصف صباح الرابع عشر من تموز عام 1958 اذيع بيان رقم واحد معلنا عن قيام ثورة 14 تموز المجيدة والتي خرجت الجماهير العراقية بمظاهرات بلغت مئات الالوف من المتظاهرين دعما لها، هكذا دخل تحرك الضباط الاحرار في الرابع عشر من تموز 1958 التاريخ، باعتباره ثورة مجيدة تعد أكبر انتصار حققه الشعب العراقي في تاريخه الحديث. وإذا أردنا تحليل يوم 14 تموز المجيد، فان على المرء ان يضع احداث 14 تموز في اطارها التاريخي الطبيعي، وان ينظر نظرة اوسع في فهم السياق التاريخي للثورة.

نظرة تاريخية

بعد الحرب العالمية الاولى واحتلال العراق من قبل بريطانيا 1914 وتأسيس الدولة العراقية عام 1921 الذي صمم نظاما سياسيا مستقلا في الظاهر تابعا وخاضعا في الجوهر للنفوذ البريطاني، اعطى للتاريخ العراقي قبل الرابع عشر من تموز الهيمنة الكاملة على البلد من قبل بريطانيا سياسيا واقتصاديا وعسكريا للإمكانيات التي تتمتع بها بريطانيا آنذاك من استراتيجية لفرض طابع اقتصادي معين واخضاع الزراعة والصناعة وبناء دولة جديدة على النحو الذي ارادته بريطانيا في تبعية العراق لها.

ومما لا شك فيه ان تخلف الاقتصاد العراقي قبل 14 تموز خلف مجموعة من المظاهر في الحكم الملكي الخاضع للإنكليز،  ففي “عام 1957 بلغت نسبة الاستيراد من بريطانيا 24 في المائة والصادرات اليها 28في المائة  وبلغ الدخل القومي لكل فرد في العراق بعد الحرب العالمية الثانية (20 - 30) باون استرليني بينما بلغ في بريطانيا (101) باون  وامريكا (109) باونات، فيما يسكن ثلث عوائل العراق غرفة واحدة و 200 الف عائلة تسكن الصرائف و300 الف عائلة تسكن بيوتا من الطين” (1)  هذه الارقام التي تبين حجم الكارثة التي يعانيها الشعب الراقي في ظل الحكومة الملكية، بالإضافة الى تردي الجانب الصحي وانتشار الامراض مثل (التراخوما و الملاريا والدزاننتريا بالإضافة الى السل الرئوي) فيما بلغت نسبة الأطباء (طبيب عراقي لكل 5800) مواطن وتهبط هذه النسبة في البلدان المتقدمة للفترة نفسها ( طبيب لكل 2000) مواطن ، وبلغ عدد المستشفيات العامة والاهلية عام 1957 (122) مستشفى فقط، وبلغ عدد السكان الفاعلين (58  في المائة ) اي ان 42 في المائة من السكان خارج النشاط الاقتصادي الانتاجي، اما على الجانب الاخر فقد بلغت نسبة الأمية عام 1957 الى 95% في المائة من السكان .

لم تكن ثورة 14 تموز العمل الثوري الأول للشعب العراقي

 للتخلص من الملكية والاستعمار والوضع المأساوي انف الذكر، فقد شهد العراق قبل ثورة تموز احداثا مهدت اخيرا للظفر بالثورة وانتصارها. ففي عام 1948 كانون الثاني اندلع حراك جماهيري واسع ضد معاهدة بورتسموث،  بعد تصريح وزير الخارجية فاضل الجمالي الذي اشاد باتفاقية عام 1930 بين العراق وبريطانيا، فقوبل هذا التصريح باستهجان كل القوى الوطنية، وألهب مشاعر الطلبة في الكليات والمعاهد فتظاهروا في الخامس من كانون الثاني العام 1948 واصطدموا بالشرطة التي استخدمت الهراوات والاسلحة النارية لتفريقهم، وكان للحزب الشيوعي العراق الدور البارز في هذا الحراك، فقد حدد الرفيق فهد التكتيكات التي يجب على الحزب السير عليها بالمحافظة على وحدة صفوف الحركة الوطنية والابتعاد عن الخلافات، كذلك تنشيط الحركة بين العمال وربط حركتهم بحركة الطلاب ودفعهم للنضال من اجل القضايا الوطنية العامة.  وبفضل هذه الوثبة الغت الجماهير معاهدة بورتسموث واسقطت وزارة صالح جبر الموغلة بعدائها للشعب، وظلت تمارس ضغطها بإحساس النصر الذي حققته في تلك الايام المجيدة.

“اما انتفاضة تشرين الثاني عام 1952 فقد كانت استمرارا لوثبة كانون الثاني، وكانت للانتفاضتين حقائق مادية فعالة ومسببات واحدة”(2) حيث انطلقت صباح يوم 22 تشرين الثاني مطالبة بأسقاط الوصي عبد الاله وحكومة مصطفى العمري، فأعلنت الاحكام العرفية بقيادة نور الدين محمود الذي كلف بتشكيل حكومة جديدة، وما هي الا ساعات قليلة حتى حلت احزاب المعارضة واعتقل قادتها وأمر بأجراء اعتقالات في كل انحاء بغداد ، لتتجدد صباح اليوم التالي  تظاهرات تشجب دكتاتورية الجاسوس الانكليزي نور الدين محمود، ولم تهدأ التظاهرات حتى المساء عندما فتحت قوات الجيش النار على الحشود في حي باب الشيخ وقتلت ثمانية عشر منهم وجرحت اربعة وثمانين .

ولم تكن هذه الانتفاضة الأخيرة قبل ثورة 14 تموز فقد شهد البلد انتفاضات وحراكا سياسيا انتهى بالظفر بثورة 14 تموز المجيدة، قد لا يسعنا المكان لذكرها هنا لكن سنمر عليها مرورا قبل تناول ثورة تموز.

تمهيدا لثورة 14 تموز 1958 بعض من الحراك السياسي

“جرى تشكيل لجنة التعاون الوطني أواخر العام 1947  التي قادت التظاهرات الشعبية ايام وثبة كانون الثاني العام 1948، وضمت ممثلين عن الحزب الشيوعي العراقي وحزب الشعب والجناح التقدمي في الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني”(3)، وفي الاول من ايار 1951 نظم الحزب  الشيوعي العراقي مظاهرات عمالية في شارع الشيخ عمر قادها الشهيد طالب عبد الجبار، الكادح الشيوعي من باب الشيخ، وكان ذلك تحديا للنظام بعد حملته الارهابية في عام 1949  التي طالت قيادة الحزب بالإعدام والتي ظن يومها ان الحزب لن ينهض على قدميه قبل مرور عشر سنوات على حد تعبير مدير الشرطة العامة آنذاك، لكن في خريف 1951 الف الحزب مجلسا مركزيا لنقابات العمال، واصدر في بداية 1952 جريدة سرية تتحدث باسم العمال اسماها (اتحاد العمال)، واعقبتها الجبهة الوطنية الانتخابية التي خاضت انتخابات المجلس النيابي في ربيع 1954 ايام وزارة ارشد العمري الثانية، ومنذ 1954 نشط الحزب الشيوعي لإيجاد ركائز ثابتة له في الجيش، ونجح في تكوين منظمة (اتحاد الضباط والجنود الاحرار). ونجح كذلك في اقامة علاقات راسخة له مع (منظمة الضباط الاحرار) التي صار يقودها منذ عام 1956 الزعيم عبد الكريم قاسم. وساهم الحزب

الشيوعي في تشرين 1956 في انتفاضة شعبية عمت عديدا من المدن في العراق ولا سيما النجف والحي، لمساندة مصر ضد العدوان الذي شنته انكلترا وفرنسا واسرائيل، تلك الانتفاضة التي جابهتها وزارة نوري سعيد بالحديد والنار والإجراءات القمعية التي اسفرت عن قتل المتظاهرين في الشوارع والكليات والمدارس الثانوية.

“وفي شباط 1957 نجح الحزب الشيوعي العراقي في اقناع الاحزاب الوطنية القائمة آنذاك في تكوين (جبهة الاتحاد الوطني) وتألفت من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي، ونظرا الى ان بعض الاحزاب رفضت مشاركة الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) في الجبهة اقام الحزب الشيوعي تحالفا ثانيا بينه وبين البارتي”(4). ساعد تكوين جبهة الاتحاد الوطني في نهوض الحركة الوطنية وتحفيز الشعب لأسقاط الحكم الرجعي.

وقدد حددت جبهة الاتحاد الوطني اهدافها بعد الاعلان عن تشكيلها في التاسع من اذار 1957 وكانت هذه الاهداف هي.

“تنحية نوري السعيد وحل المجلس النيابي، والخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلدان العربية المتحررة، مقاومة التدخل الاستعماري بشتى اشكاله ومصادره، وانتهاج سياسة عربية مستقلة اساسها الحياد الايجابي، إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية، الغاء الادارة العرفية، وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين.”(5)

صبيحة 14 تموز وحسم المفاهيم

منذ عام 1956 نشط الضباط الاحرار لتحقيق مشروعاتهم ومحاولاتهم لتنفيذ الانقلاب للإطاحة بالحكم الملكي، لكنهم كانوا يؤجلونها المرة بعد الاخرى، اما لعدم كفاية القطاعات العسكرية المتوفرة لتنفيذ العملية، او لان الثلاثة الكبار الذين يتزعمون النظام (الملك والوصي ونوري سعيد) لا يوجدون سوية حين التنفيذ.

لم تكن الساعات الاولى من 14 تموز ثورة بالمفهوم الواضح والذي نحمله حتى يحولها تدخل الجماهير الواسعة لتأييدها من انقلاب عسكري الى ثورة حقيقة، “فمنذ لحظة اعلان ((الثورة))(*) في الصباح الباكر ومع النداءات التي كان يطلقها عبد السلام عرف من الاذاعة لدعم ((الثورة)) انطلقت الجماهير الشعبية في كل مكان وفي جميع انحاء البلاد، وهي تعلن عن فرحتها بالثورة، وعن عزمها على اسنادها وحمايتها،(6) وبعد اذاعة البيان الأول انطلقت الجماهير الشعبية فور سماعها البيان الاول الى الشوارع وهي تجمع ما بين الفرح العارم بالثورة والسخط على الحكام السابقين، وقد عرقلت هذه الحركة اي اعمال مضادة معادية ممكنة بسدها الشوارع والجسور لا في بغداد وحسب بل في المدن اخرى ايضا، والأهم من هذا هو انه كان للجماهير، بفضل عنفها، تأثير نفسي هائل، اذ انها زرعت في قلوب مؤيدي الملكية الخوف واسهمت في شل  ارادتهم ، كما يعلق حنا بطاطو . نعم لقد انتصرت القطاعات العسكرية بقيادة منظمة الضباط الاحرار في اسقاط النظام الرجعي العميل، وكان للحزب الشيوعي الدور البارز فيها بالإضافة لكل القوى الوطنية، فقد كان يعرف موعد انطلاق هذه القطاعات وغرضها، لذلك عبأ كوادره استعدادا للأمر، وأصدر توجيهاته الخاصة بهذا الشأن، ولهذا ما ان أعلن عن بدء الحركة، حتى انطلقت الجماهير الى الشوارع في بغداد والمدن الاخرى، وتحول الانقلاب العسكري الى ثورة هائلة، قضت على رموز النظام السابق واقامت الجمهورية.

 يقول حنا بطاطو» لا يكفينا ان ننظر الى الوراء، ويجب الا يقتصر حقل الرؤية عندنا على ما سبق احداث 14 تموز ان يشمل ايضا ما تلاها. والواقع ان ألقاء نظرة سريعة على الاثار اللاحقة يكفي لجعلنا نعرف اننا امام ثورة اصيلة، ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية ان تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف، او لتثير المخاوف او الآمال بهذه الجدية خلال سنتي 1958 – 1959 ،  والواقع ان 14 تموز اتى معه بأكثر من مجرد تغيير في الحكم”.(7)

فقد دمرت الثورة السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ ملاكي الاراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعززت حياة العمال في المدينة وحياة الفلاحين في الريف بإصدار قانون الاصلاح الزراعي والغاء الاقطاع، وقامت بتشريع قانون الاحوال الشخصية الذي بموجبه اعاد الاعتبار للمرأة العراقية، واقر القانون مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، كما تسلمت الرفيقة نزيهة الدليمي منصبا وزاريا لتعتبر اول وزيرة عراقية، بل اول امرأة تستلم منصب الوزارة في العالم العربي.

لقد كانت ثورة الرابع عشر من تموز ذروة نضال جيل كامل من الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا والعاملة، واوج ميل ثوري كامل متشرب في الاعماق، كانت له تعبيراته التي تمثلت بانقلاب 1936 والحركة العسكرية 1941 والوثبة 1948 والانتفاضة 1952 ثم انتفاضات 1956.

ولهذا دخل تحرك الضباط الاحرار الوطنيين في الرابع عشر من تموز 1958 التاريخ باعتباره ثورة مجيدة تعد أكبر انتصار حققه الشعب العراقي في تاريخه الحديث.

ـــــــــــــــــــــــ

الهوامش 

1 - فرحان قاسم - 14 تموز معركة المفاهيم – جريدة طريق الشعب العدد 229 تموز 2016.

2 - حنا بطاطو - العراق- الكتاب الثاني الحزب الشيوعي – دار قبس – ص 329.

3 - عبد الرزاق الصافي – من ذاكرة الزمن – دار المدى – الطبعة الاولى 2010 – ص 97

4 -  عزيز سباهي وعبد الرزاق الصافي - الحزب الشيوعي العراقي.. معالم على الطريق – دار الرواد المزدهرة 2017 الطبعة الثانية.

5 - عبد الرزاق الصافي – من ذاكرة الزمن – دار المدى – الطبعة الاولى 2010 – ص 99

6 - عزيز سباهي – عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الثاني – ص262

7 - حنا بطاطو – العراق – الكتاب الثالث – الشيوعيون والبعثيون والضباط الاحرار – منشورات دار قبس – ص116

(*) كلمة الثورة بين قوسين يدرجها عزيز سباهي في كتابه عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ليوضح بانها اصبحت ثورة بعد ان ساندتها الجماهير وايدتها

عرض مقالات: