كان شعار الوحدة الفورية الإندماجية أو الإتحاد الفيدرالي بمثابة (القشة التي قصمت ظهر البعير) بالنسبة إلى ثورة 14 تموز، وتفتيت جبهة الإتحاد الوطني وهي تمثل القاعدة الإجتماعية المادية للثورة !! وذلك عندما رفع حزب البعث شعار الوحدة الفورية، وكان هنالك مرجعان تاريخيان وهما:
1 -
اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار فقد ناقشت موضوع الوحدة وتوصلت الى نتيجة مشروطة مفادها: إذا تمت مهاجمة العراق من قبل دول حلف بغداد أو أمريكا أو بريطانيا، تعلن الوحدة الفورية مع العربية المتحدة.
2 -
ولم تذكر جبهة الإتحاد الوطني في بيان تأسيسها بصدد مشروع الوحدة الفورية، “... بينما كان الاتفاق في جبهة الإتحاد الوطني على ( السير في ركاب التحرر العربي) فقط، ولم تكن الوحدة الفورية الكاملة من الأهداف الواجبة التحقيق بعد الثورة مباشرة، كما أن أطرافا مهمة لم تكن تؤمن بالوحدة الكاملة ولا تدعو لها إلا بعض الأحزاب والفئات...”.
قرار جبهة الاتحاد الوطني الداعي إلى الارتباط بالجمهورية العربية المتحدة بإتحاد فيدرالي. فما الذي دفع بعد الثورة إلى الانقلاب على موقفه ويندفع إلى الإلحاح على الوحدة الفورية؟؟... لقد أظهرت المظاهرة الهائلة التي نظمها دعاة الاتحاد الفيدرالي في 5 آب 1958 (وليس 7 أب كما وردد في بعض المصادر) من الاحزاب العربية والكردية، أن جماهير الشعب الغالبة هي مع الاتحاد الفيدرالي وليست مع الوحدة الكاملة والفورية. بيد أن القوميين على اختلاف فصائلهم، قد ركبوا رؤوسهم، وما عادوا يقيمون وزناً لرأي الجماهير... “.
كان رفع شعار(الوحدة الاندماجية الفورية) بمثابة العامل الأرأس في تفتيت الجبهة، كما أسلفنا، وأثارت الصراعات المقترنة بالعنف السياسي بين الأحزاب السياسية للجبهة ذاتها والجماهير الشعبية، ذات الوعي الاجتماعي المنخفض بصورة عامة.
ويقول عزيز سباهي إلى أن التوجيه العام للحزب الشيوعي العراقي قبل 14 تموز (التأكيد على المطالبة بحكومة تنتهج سياسية وطنية وإقامة اتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة).
ومن هذا يتضح أن شعار الحزب الشيوعي بشأن المطالبة بالاتحاد الفيدرالي لم يكن طارئاً، أو جاء رداً على شعار رفعه الآخرون، وإنما جاء عن تقدير دقيق للأوضاع التي تمر بها البلدان العربية، ولم يصدر كرد فعل آنيّ على هذا أو ذاك من الداعين إلى الوحدة الفورية كما يذهب إلى ذلك بعض المؤرخين. وجاء حتى قبل أن يُكتب للثورة النصر. ولم يكن رده انفعالياً قصد المناكدة، كما يصورة البعض. ولم ينفرد الحزب الشيوعي العراقي لوحده بالدعوة إلى الاتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. إذ كان حزبا الوطني الديمقراطي والاستقلال قد أوردا في المنهاج الذي وضعاه بصورة مشتركة للحزب الذي تقرر أن يجمع بينهما (المؤتمر الوطني)، والذي أرفقاه مع الطلب الذي تقدّما لإجازة الحزب في 16 حزيران 1956، الدعوة إلى الفيدرالية... “.
أن كل الأحداث والتطورات العربية منذ ذلك الوقت حول موضوع الوحدة يجب معالجته معرفياً أولاً قبل طرحه سياسياً، وإن البناء الثقافي والنفسي والاقتصادي وتخفيف العصبيات القطرية والعشائرية والأسرية ووعي الخصوصيات القطرية شروط لا بد منها لأية خطوة وحدوية ناجحة وراسخة.
إن رؤية التيارات الاشتراكية- القومية- الاسلامية تجلت في الممارسة السياسية بعد اعتلاء القوى القومية لسلطة الدولة السياسية في عدد من البلدان العربية وما انتجته من: تفتيت الوحدة الوطنية من خلال تغليب الرؤى البرنامجية المثالية على المصالح الوطنية وربط تحقيق الوحدة العربية بسياسة الاضطهاد السياسي للقوى الوطنية الأخرى؛ تأمين مصالح الطبقات الفرعية –البرجوازية الكمبورادورية– البرجوازية العقارية -شرائح من البرجوازية المالية واهمال مصالح الطبقات الأخرى، وبهذا المجرى جرى اضعاف مفهوم الوطنية العراقية بعد سيادة المصالح الطبقية الفرعية؛ اختزال مفهوم الوطنية العراقية برؤى برنامجيه قومية مثالية)..
إن معارضة حزب البعث للإتحاد الفيدرالي، وإصراره على الوحدة الفورية، لم تنبع كلها عن قناعة فكرية مبدئية، كما أنها لا تدل على رغبة حقيقية في التقدم، لأنها لا تقيم وزناً إلى الشروط الموضوعية من حيث الأنتباه إلى التباينات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي لا تقيم وزناً أيضاً إلى وعي الشعب وقناعته، ورغبته في التمتع بالحريات الديمقراطية بعد أن طال حرمانه منها. ومن حق المرء أن يبدي شكوكه ازاء الدوافع التي تدفع بمشيل عفلق إلى الحقد على الشيوعية، ويصطنع من مسألة الوحدة ذريعة لتأليب القوى عليها، وهو الذي يرطن بالاشتراكية وبمعاداة الاستعمار أيضاً...
ويقول يفغني بريماكوف:”... لم يكن تفكير القوميين الثوريين الذين جاءوا للسلطة في بعض الدولة العربية متشابها مؤيدا بشكل مطلق للوحدة العربية. وكان شعار(وطنية البلاد) في الممارسة فوق القومية العربية، ولم تكن هذه صفة مميزة لمصر وحدها فقط، بل لجميع الانظمة العربية البرجوازية الصغيرة... “ وثبتت التجربة فشل بقية المنظرين للوحدة العروبيين والإسلاميين مثلما فشل دعاة “العالمية الاشتراكية”. وتم تكريس واقع “الدولة الوطنية...”.
ـــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
-
عزيز سباهي، عقود من تاريخ، الجزء 2، ص. 343، مصدر سابق.
-
عزيز سباهي،عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ج.2، ص. 337، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق 2003.
-
يفغني بريماكوف الشرق الأوسط المخفي والمعلوم، ص. 57، دار اسكندرون 2006 دمشق.

عرض مقالات: