كان لثورة 14 تموز 1958 واقع مشرق، بشر منذ البداية بالخير والتقدم في انتقال السلطة من الملكية شبه الاقطاعية الى سلطة تتداخل فيها مقومات وتأثيرات الطبقات الأخرى البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة « شغيلة اليد والفكر» المتمثلة بالنقابات العمالية والثقافية وتنظيماتها السياسية، وهذا التوجه خلق آمالاً واسعة في بناء العراق على أسس دولة مدنية ديمقراطية تتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني وغيره، وتتجه لبناء علاقات جديدة مع المحيط العربي والإقليمي والدولي الجاد، ولإنهاء الهيمنة العسكرية على السلطة، وتحقيق الانتقال الى السلطة المدنية، وفسح المجال لقيام أحزاب وطنية وديمقراطية بدون استثناءات، ثم العمل لتطوير القضايا المهمة في الصناعة والزراعة وتطوير القطاع الخاص والمختلط ومؤسسات الدولة، كي يجري تنفيذ المهمات الوطنية الداخلية منها، قضية الفقر والبطالة، وحل ازمة السكن، وتحسين الأوضاع الخدمية والصحية والتربوية، أي تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية.
إضافة الى مهمات أخرى، تنحصر في وضع حجر الأساس لبناء جديد والتخلص من تركة الماضي المؤلم، الذي أنتج الكثير من الفوارق والمآسي بما فيها إقامة نظام امني هاجسه محاربة القوى الوطنية والديمقراطية، وزج المئات من المناضلين في السجون والمعتقلات والقيام بحملات القمع والاضطهاد والتعذيب والاعدامات، التي طالت كوكبة من الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين، فثورة تموز حققت تلك المهمات التي تعتبر فاتحة لعصر جديد من العلاقات والبناء، إلا ان هذه المهمات تعطلت لأسباب عديدة منها:
1
ــــ الاصرار على بقاء السلطة بيد العسكر، وبخاصة قيادته التي قامت بالتخطيط والتنفيذ لثورة 14 تموز 1958
2
ـــ تفتت الجبهة الداخلية، والمعني جبهة الاتحاد الوطني، بسبب توجهات البعث بالاعتماد على قوى الردة والرجعية وفلول الاقطاع والملكية ودعم خارجي.
3
ـــ التذبذب البرجوازي الصغير والتهاون مع قوى الردة والرجعية والقومية المتطرفة، ثم الارتداد والانتكاسة ومحاربة القوى الديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي، وزج المئات في السجون والمعتقلات وإصدار أحكام الاعدامات بواسطة المجلس العرفي العسكري ورئيس المحكمة العسكرية العقيد شمس الدين عبد الله.
4
ـــ التآمر البعثي والقومي المتطرف مع القوى الرجعية وفلول الاقطاع والنظام الملكي، وبدعم من القوى الاستعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا .
5
ـــ الموقف العدائي للجمهورية العربية المتحدة آنذاك وتقديم الدعم اللوجستي المختلف للقوى المتآمرة، وفي مقدمتها حزب البعث العراقي والجبهة القومية.
ثم تحققت الردة الرجعية الدموية بانقلاب 8 شباط 1963، حيث تمت إعادة العراق الى حالة عدم الاستقرار، والعودة الى سياسة الترهيب والفساد والفوضى والقتل العشوائي، وقيام الحرب على الكرد في كردستان العراق، وإنهاء الأمل في الانتقال بالثورة من العسكرة الى المدنية وبناء دولة دستورية وطنية وديمقراطية. وتعطلت هذه المهمات حتى بعد قيام انقلاب 18 / تشرين / 1963 بقيادة عبد السلام عارف وإقصاء البعث العراقي من السلطة ومجيء القوى القومية التي ادعت انتماءها الى الوحدة العربية ودولتها القومية والمتاجرة بالقضية الفلسطينية، فلم تتحقق لا الوحدة العربية ولا بقاء الجمهورية العربية المتحدة، ثم ضياع كل فلسطين والكثير من الأراضي العربية بالاحتلال الإسرائيلي في 1967 .
واستمرت التداعيات نحو عدم الاستقرار والهيمنة على السلطة بالرغم من فشل مشروع القوى القومية لإقامة الوحدة العربية والتضامن العربي، وكانت النتيجة الأخيرة ما أفرزه انقلاب 8 شباط الاسود 1963 في اجهاض امل تحقيق مهمات ثورة 14 تموز، ثم قيام الانقلاب الثاني في 17 / تموز / 1968 بقيادة حزب البعث وتحالفه مع القوى الاستعمارية والرجعية .
كل الحقبة التاريخية التي استمرت 35 عاماً كانت عبارة عن سلسلة من التراجعات عن المهمات الوطنية، وعلى الرغم من بعض التطورات التي حدثت في البداية، لكن سرعان ما انتكست نحو الدولة البوليسية الدكتاتورية والحروب الداخلية والخارجية، بما فيها الحرب في كردستان واستعمال الأسلحة المحرمة دولياً حتى قيام الاحتلال الأمريكي البريطاني واسقاط النظام الصدامي السلطوي.
لقد كانت ثورة 14 تموز 1958 بحق نقلة نوعية من اجل التطور والبناء ولو تركت تواصل مسيرتها على وفق أسس قانونية ووطنية بدون التآمر البعثي القومي الاستعماري الإقليمي ، لكان وضع العراق أفضل وأكثر تقدماً ورفاهية وبدون هذا التخلف والتبعية والاحتلال.

عرض مقالات: