تفصلنا اكثر من ستة عقود عن ثورة 14 تموز ، ودور قائدها الشهيد عبد الكريم قاسم.
واليوم نتملس عبر شهادات المعاصرين لهذا الحدث، مكر التاريخ في تقويم مجايليه، وأن كان الأمر يصيبنا بالإحباط والخيبة، وتهدم الصورة المرسومة لزهو أيام صاخبة، ورجالها الأبطال الذين نراهم في وقتنا بدون رتوش أو هالة القدسية أو المحبة.
ففي شهادته عن قاسم يكشف لنا عبد اللطيف الشواف الذي شغل وزارة التجارة في عهده عام 1959 جوانب مهمة عن حياة الزعيم، في كتابه الموسوم (عبدالكريم قاسم وعراقيون أخرون.. ذكريات وانطباعات).
فالكاتب يقول الحقائق من باب كشف آلية العمل الذي ينتهجها قاسم في إدارة الحكومة وهو القادم من الثكنة العسكرية، ولم يعرف عنه العمل السياسي والمعرفة العميقة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. وهي ليست حالة فردية فقط بل حالة أكثر قادة الحركة الوطنية العراقية المناضلين الذين ولم تتح لهم الظروف ان يرتفعوا في مستواهم الثقافي والمعرفي الى مستوى التضحيات التي قدموها.
يكشف الشواف ان اجتماعات مجلس الوزراء تتم في الهزيع الأخير من الليل ويتم فيها بالكاد ( إنجاز البت في البرنامج الإداري للمجلس كمسائل الإيفادات، والترفيعات والتعيينات والمخصصات، أما المهام الموضوعية والتشريعية والنظر في دراسة والمصادقة على مشاريع القوانين والأنظمة والتقارير الهامة فكان التأخير يلحقها من جلسة الى أخرى).
ويصبح النظر في السياسيات الأمنية والدفاعية والاقتصادية التي يتعذر النقاش فيها تعتمد على خطابات الزعيم الارتجالية و(من اختصاص الجهات – غير المسؤولة مثل الصحف والتجمعات السياسية المختلفة الى حد الاقتتال).
ويشير عدنان عباس وهو احد قيادات الحزب الشيوعي السابقة في كتابه (هذا ما حدث) الى (إن تشكيل المقاومة الشعبية كان بقرار من الزعيم وهي تشكيل نظامي ارتباطه وتدريبه وتسليحه مناط بالجيش العراقي ).
بعد ان استنفذ الزعيم الغرض من تشكيلها اصدر قراره بحلها وتحمل الحزب الشيوعي الأخطاء التي ارتكبت من خلال تشكيلها).
ولقاسم وجه اخر هو حبه لتقديم الخدمات للفقراء واعمار العراق ونموه الزراعي والصناعي والى التغيير الدستوري أيضا، ولكنه اعتمد على الأجهزة السابقة والقمعية والحكام العسكريين أمثال احمد صالح العبدي وشمس الدين عبدالله والقوى الانتهازية أمثال عراك الزكم الذي سيطر على الجمعيات الفلاحية. وبدأت القوى القمعية في مطاردة الديمقراطيين والشيوعيين واغتيالهم والحكم على بعضهم بالإعدام.
كما أن العديد من وزرائه والعسكريين من حوله اخذوا بتوريطه في حربه ضد الاكراد، ولكن قاسم لم يكن مقتنعا فيها رغم انه حاول كما يشير الشواف اللجوء الى تبريرات (شتى تنطوي على مماحكات لفظية او على تبريرات تاريخية او شخصية لتفسير موقفه).
ولكنه يشير أيضا الى ان عينيه بدأت تدمع في احدى جلسات وانه بكى لفرط ..لأن حكومته وهو شخصيا قد فشلا في الاستجابة لإحدى النقاط الجوهرية من شعارات الحركة الوطنية العراقية حول القضية الكردية).
ويذكر انه زج بالعديد من انصار السلام في كردستان في السجون والمعتقلات.
ويشير الشواف الى ان رغبة قاسم في اعلان الدستور الدائم وإعادة النظر بمجلس السيادة والصلاحية التشريعية لمجلس الوزراء اعاقها أعوان قاسم نفسه .
والشيء نفسه يقال حول علاقات العراق العربية في زمنه والموقف من الكويت واستقلالها.
وحتى على الصعيد الثقافي، ترى الناقدة فاطمة المحسن في كتابها (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) كانت الوعود التي يقدمها قاسم للشعب أقرب إلى رغائب كانت تكمن في أدب وفن وفكر الجمع الثقافي مهما اختلف تصوراته عن تفاصيلها.
وبدت كلمات من خطاباته وهي توضع في مجلة (المثقف) التي تصدر عن اتحاد أدباء العراق، أقرب الى توجيهات ينبغي أن تحفر في ذاكرة الثقافة العراقية.
وتؤكد (انه لا يمكن أن يقاس حدث تاريخي مثل (14 تموز) بمقاييس الحاضر، مقاييس الشاهد التاريخي الذي عرف مآلات الثورة).
ويبقى الحكم للتاريخ، لهذا الزعيم الذي احبه الفقراء، وأحبهم أيضا ولكنه دونه الخبرة والرجال والظرف التاريخي الذي لم يسمح له ان يحقق ما يريد، فالتاريخ بأبسط تعريفاته هو الوقت.
وقاسم الذي حملته الثكنة العسكرية الى السلطة، لم يكن يعرف أن مهمته انتهت بإسقاط النظام الملكي.
كما أن القوى الوطنية التي ألتهت بالإحتراب بينها، لم تستطع ان تقوم سلطة الجنرال، أو تزيحه وتعيده الى ثكنته.

عرض مقالات: