أول القول، بلا تكلفة، هو ان رئيس جماعة الاخوان المسلمين في مصر، كان قد اخترع مصطلح (الاسلام السياسي) قبل حوالي القرن من الزمان.

هذا الدرس الاخواني، المعبر تعبيراً مباشراً عن أهداف أصحابه، مخترعين ومنفذين، سرعان ما انتشر في اغلب الكتابات عن التنظيمات الاسلامية في الشرق الأوسط، ليتخذ طابع المسؤولية الاساسية في سبيل إقامة نظام دولة إسلامية، تجمع (الدين) و (الدولة) بغرفةٍ واحدةٍ، تحت سيف الإسلام معتمراً، أخيراً، قبّعة الصاروخ الباليستيكي الإيراني.

انتشار المصطلح وصل الى التنظيمات الشيعية، أيضاً، لتطويره بدون موانع او تكلفة. خبرة الامام الخميني تناسبت مع المصطلح، بالتماسٍ، دونما أية حساسية، لـ(تصدير الثورة) والانفتاح على مصابيح (الهلال الشيعي) حتى لو لقيت أقمار الشرق الأوسط حتفها في يومٍ قادمٍ.

حزب الدعوة الاسلامية، العراقي المولد والجنسية، تطوعت قياداته باستلهام هذا النظر وهذه النظرية، حتى ولو فقد العراق وجهه في الرمال الغربية.

حزب الله اللبناني صبغَ وجهه بلونٍ قاتمٍ، بعد إيجاد الحل الوسيط بين ولاية الفقيه الإيرانية والجدوى السياسية اللبنانية.

احزاب وجماعات اخرى، عربية، تنافست مع نفسها وشقيقاتها، متسمة بالبراعة الدينية، للحصول على كفاءة الطاقة داخل هذا المصطلح في عملها الاستراتيجي.

في جميع كتب وكتابات الكتّاب المسلمين القادمين الى حكم العراق عام ٢٠٠٣ وأقوالهم وخططهم، نجد معلومات كثيرة بأفكارٍ، أكثر وأوسع، حول اندماج (الدين) مع (الدولة).  يظنون انها تبلغ مرحلة تجديد الدين الاسلامي الحنيف في تطبيقاتها على الناس العراقيين. زاد نشر المطبوعات الدينية التراثية بشكل لا يُصدّق. تعاظمَ توزيعها بنوعٍ غريبٍ من إقبال القرّاء ومن الرضا لدى اصحاب دور نشر رئيسية، في لبنان ومصر.

في ستينات القرن العشرين دخلت المملكة العربية السعودية على هذا الخط واستجابت عمليات طبع وتوزيع الكتب فيها بشكل مهووس لتنشيط الفكر السني السلفي، مما أدى الى احياء وتعزيز الفكر الوهابي ونشوء منظمات مسلّحة، مبنية على الآفاق الإرهابية وعلى القصص الخرافية الاسلامية بهدف الانقضاض على (الحماقات) الروسية والامريكية عن غزو الفضاء والمركبات الانسانية لمراقبة حركة الكواكب السماوية، موصوفة من ففقهاء السلفية وغيرهم بالعدوان البشري الضخم على الذات الإلهية.

لابد من الإشارة، هنا، إلى ان الشيوعيين والماركسيين والديمقراطيين في العراق وفي البلدان العربية ظلوا وحيدين في تأكيد نضالهم اليومي والإستراتيجي على أهمية انقاذ الدولة الحديثة من روث الإسلام السياسي الخافض الرأس لدمج الدين بالدولة او الدولة بالدين. ظلّت الصحف والمجلات والمنشورات الماركسية كلها مسكونة بالدعوة الى اشواق العلمانية باعتبار الدولة العلمانية هي الجناح الوحيد الضامن حقوق الانسان، في العصر الحديث.

 هنا يأتي سؤال عن أسباب افتراق الحالتين، حالة الشرق وحالة الغرب. حالة المسلمين في الشرق وحالة غيرهم، من غير المسلمين، في الغرب. في الشرق يهتم الاسلام السياسي بالملاحم الماضوية التاريخية، الواقعية منها او المعجزات الخيالية، مثل تحوّل العصا الموسوية الى افعى او التجانس مع تأخر غروب الشمس لضرورات القتال الإسلامي او الأشياء الغريبة عن نصرة الإسلام بهجوم النحلات ونفث سمومها بوجوه واجساد أعداء الإسلام وغير ذلك من مبالغات اعجازية غير معقولة ...!   بينما هدى الله، حسب ما يقوله البابوات والأساقفة جميع الدول الغربية للعناية والتخطيط بقضايا مستقبلية، معيشية واقتصادية لتحسين حياة البشر.  

كان الشوق عظيماً في إيران لمواكبة الحاجة الى المطبوعات الدينية ذات الفقه الشيعي، خاصة بعد نجاح ثورة الخميني عام 1979. كان الهدف الاول، منها، هو منافسة الوحل الفكري لمركزية السلفية السعودية. كان نظام الشاه محمد رضا بهلوي يعارض، كثيراً، إقامة مجتمع إيراني على أفكار مثقلة بالسلفية الدينية الشيعية، لذلك كانت حركة الخطابة المعارضة في الجوامع أساساً ثقافياً للسيطرة الفكرية من قبل المنظمات المعارضة للنظام الشاهنشاهي على المجتمع المغلق عيونه على أفكار أية الله الخميني، التي لا تنفتح الا بقيام (الاسلام السياسي الإيراني) ببناء دولة اسلامية - شيعية مهمتها الاساسية إقامة الهلال الخطيب - الشيعي واعادة أحلام الامبراطورية الفارسية القديمة لكن مسحورة بالفقه الشيعي.  

  لم تكن افكارهم، بنظرهم، مضطربة، لأنها صادرة عن منهج إلهي. لكن الاضطراب الأساسي كان وما زال قائماً، بعمقٍ واسع، لدى الجماهير الشعبية الواسعة ولدى الأحزاب التقدمية، الصغيرة الحجم والمتوسطة، في اغلب البلدان العربية، حيث تجول دعايات اسلامية ضد الأحزاب الشيوعية والتقدمية معتبرين أن قولاً من أقوال كارل ماركس (الدين أفيون الشعوب) هو عدوان على الدين الاسلامي وعلى الله وأنبيائه. 

في اثناء وجود آلاف السجناء السياسيين في سجن نقرة السلمان الصحراوي حيث كان يقطن فيه اكثرية من الشيوعيين العراقيين كان من بينهم الشاعر، الناقد، الشيوعي، هاشم الطعان. قال ذات يوم، بمحاضرة عمومية، ان الماركسية عظيمة الفكر والتأثير في الفكر الإنساني وفعاليته، لكن ما ينقصها ان كارل ماركس لم يجد الظروف اللازمة للاطلاع ودراسة الصراعات التاريخية، العربية والاسلامية، بمختلف العصور. كانت لدى كارل ماركس الرغبة العارمة لمعرفة الزمانية الضرورية وصراعاتها الطبقية في مجتمعات التاريخ الإسلامي القديم، فاختار السفر الى مدينة الجزائر ظناً منه انه سوف يطّلع على الزمانية التاريخية، العربية، الاسلامية. لكنه لم يجدها خلال مكوثه في الجزائر لمدة تزيد قليلاً على ثلاثة شهور. لو توجّه كارل ماركس في زيارته تلك الى بغداد او دمشق – حسب هاشم الطعان -  لاستطاع ان يملأ تجاربه الفكرية من خلال اطلاعه على المصادر التاريخية الاساسية، مثل كتاب تاريخ الطبري والأغاني والكامل في التاريخ لأبن الأثير وغيرها من المصادر ذات العلاقة بكشف زمان الصراع الطبقي - العبودي بمجتمع كان فيه دعاة (الحرية) يتكاثرون من عصر الى عصر ومن عهد الى عهد. كان هاشم الطعان يعلن عن أسفه ان كارل ماركس لم يطّلع على كتابات ابن رشد والكندي والجاحظ والرازي وابن سينا وابن الأثير. كما كان يعرب عن أسفه ان ماركس قرأ إشعار شكسبير، لكنه لم يقرأ اشعار الشاعر (ابو العلاء المعري)، كذلك لم يقرأ اشعار بشار بن برد والحلاج وغيرهم من المعارضين لأساليب حكم الخلفاء المتعجرفين.

الشيء المؤسف ان الشيوعيين العراقيين والأكاديميين التقدميين، لم يتمكن أحد منهم حتى الان، تحقيق ما كان متحركاً في ضمير كارل ماركس لتعلية الماركسية في العراق، من خلال دراسة تاريخية للمجتمعات الاسلامية، وتحليل أسباب وجودها وسقوطها كالإمبراطوريتين الإسلاميتين، الأموية والعباسية وربما هناك حاجة ملحة لدراسة عصور الوجود الإمبراطوري - العثماني، كما ودراسة تاريخية العلاقات الطبقية في مجتمعات قديمة قبل الاسلام، في مجتمعات اور وبابل واشور وغيرها.  القليل منهم، فعل هذا الامر عند نقاط تقاطع وتعارض محددة. امثال فيصل السامر وفالح عبد الجبار ورشيد الخفيون وفالح مهدي، كما فعل في مصر، فرج فودة وسيد القمني ويوسف زيدان ورفعت السعيد. ربما اخرون لا تحضرني أسماؤهم، في هذه اللحظة. 

لهذا وذاك ظلّت الماركسية في العراق مثل اللغة العربية في أحاديث الناس، صعبة جداً على كثير من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي في حالات الرفع والنصب والجر. اللمحات الاساسية تجدها في بيانات الحزب الشيوعي العراقي وفي نضالاته الجماهيرية فحسب. كم أتمنى ان يتحرر الشيوعيون، في مواقع القيادة والقاعدة، من الانزواء في برامجهم الثقافية، بعيداً عن دراسة التاريخ الاسلامي وتراثه، حيث أشارك هاشم الطعان رأيه القائل: من دون مواجهة الشمس لا يتجانس زهر (عباد الشمس) مع الشمس.

كذلك أتمنى ان يتحرر كل باحث اصيل يعتبر نفسه تلميذا من تلاميذ أرسطو وهيغل وكل من تناول البحث في الماضي بروح المعرفة والعلم والنظر الى الزمان والمكان. 

لا زمان يتحرك بدون الانسان وحركته في العمل والبحث. بمعنى ان اشياء الزمان وأحداثه ذات علاقة بالإنسان، بعقل الإنسان وتطلعاته. ربما يجد قادة احزاب الاسلام السياسي انهم في استقلالٍ عن الزمانِ وعن حركةِ الانسانِ، لأن خاصيتهم الاولى والاخيرة ترتكز الى (أقوال شائعة قيلت عن الماضي). قالها فقهاء لا يعتبرون المستقبل من صنع الناس، بل هو قدر مقدّر من الله. المستقبل والماضي والحاضر من صنع الله. واجب الاسلام السياسي هو جعل الجماهير الفقيرة راضية عن فقرها لأن الفقر مقدّر من الله. الجماهير المحرومة من السكن والتعليم والصحة والعمل عليها ان لا تتذمر من العيش مع امراض الجذام والسرطان والنوم في أكواخ خاوية ولا تنتفض بوجه الحاكمين لان الحرمان هو قرار الله.. الخ

يقول الاسلام السياسي: كل انواع الحياة الانسانية تعود الى العلاقة بين الله والانسان. ليس الانسان العادي، انما الانسان القيادي المنظم على وفق غايات واهداف الاسلام السياسي، نفسه.

هذه العلاقة يريدون ان تكون نتائجها مقبولة من الناس الفقراء لأنها من (إرادة الله)، كما تروّج لها أحزاب الإسلام السياسي. نفس الإرادة، كما يقول منظّروها، جعلت قادتهم، بمختلف الوسائل، نصف المشروعة وغير المشروعة، أغنياء الى درجة المليونية والملياردية. يدعون ان الله هو الذي اعطاهم الثروة وليس غيره. يتهمون اعداء الله بأنهم ينشرون اقاويلهم عن مسؤولية حكام ما بعد عام ٢٠٠٣ في ضياع ثروات الشعب وأمواله أو أنهم سرقوا او نهبوا أموال الدولة العراقية الضعيفة. يقولون إن مثل هذا الادعاء يصرّح به (اعداء الله) لأن لهم علاقة بالعدو الأكبر، يسمونه (الشيطان)...!

وكما يعرف جميع ابناءً البشر ان (الشيطان) هو كائن خارق للعادة والطبيعة بإمكانه المختلق ان يفعل الشر وقتما يريد وفي المكان الذي يريد. الشيطان هو المبتعد عن أحزاب الإسلام السياسي وعن دين الله والمطرود من معسكر الخير، بقرارٍ من الله.. مطرود عن (العالم الإسلامي) لأنه موصوف بـ(الرَجيم) في كتب الديانات السماوية.

مثل هذا التوصيف يجعلنا نبصر واقع الحال العراقي. يفرز أسئلة عديدة، عاصفة، لمعرفة هندباء جذورها التسلطية الضارية، من مثل: هل أن الحياة الاجتماعية خالية، كلية، من أفعال (الشيطان) لأن الناس تربوا على حقيقة ان الله طردَ وأبعدَ (الشيطان) عن عالمه...؟ هل ان علم الاجتماع يخلو من (الشياطين) مما يجعل العالم الاسلامي نزيهاً ...؟ هل ان علم الاجتماع يخلو منهم حتى صارت المجتمعات بعيدة عن الشر والأشرار...؟  هل أن مجتمع (الوزراء) و (المدراء) و (السفراء) و (البرلمانيين) و (المحافظين) لا يثير أي اهتمام حول (الذات الشيطانية)، الممتدة في دولة إيران الشيعية او دولة السعودية السنية او دولة تركيا السياحية لأنها دولٌ تحمل النظرات الاسلامية الإجمالية المتكاملة...؟

كثيرٌ من النقاد الأدبيين و الروائيين يعتبرون ان رواية دون كيشوت و مدام بوفاري و اولاد حارتنا و الشيخ و البحر و جميع مسرحيات شكسبير  او قصص الف ليلة و ليلة او الشاهنامة الفارسية او مقامات بديع الزمان الهمداني او مؤلفات  ابن خلدون و الروائي غائب طعمة فرمان  و الدكتور علي الوردي وصراحة الروائية عالية ممدوح وجميع  الآلاف من الكتاب و الشعراء ، الذين اظهروا بؤس (الشياطين) وسماتهم الطبقية و الطائفية وادمانهم على فعل الشر بحق الخليقة البشرية ،كلها،  هي من افعال (الشيطان) لأنها روايات و مسرحيات لا تنشر قيم النزعات الدينية ، بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنزعات فردية - شيطانية - حسب نظرة الاسلام السياسي -  الذي يعتبر نفسه    انه  قدم  أفضل أداء في عصره من قبل حكامه على اعتبار ان هذا الأداء هو تيار جاءهم من الله فانصرفوا  لتنفيذه من خلال سيطرتهم على التوجيه الاجتماعي و السياسي.     

منظّرو الاسلام السياسي، بدءاً من حسن البنّا وسيد قطب وليس انتهاءً بالسيد علي خامنئي ونوري المالكي والشيخ عمار الكفيشي، وغيرهم كثيرون. يعتقدون ان (الشيطان) يتواثب، ضدهم، في كل مكان وزمان من اجل تحقيق العداوة بين السماء والارض، بين الله والناس. الله خلق الشيطان ليحرّك الانسان بدفعهِ الى الضلالة.. الله خلق الشيطان لكي ينتزع الوجدان من الانسان...!  هذا هو المشهد وحركته في منشورات ونشاطات وأفكار الأحزاب السياسية – الدينية.

هذه هي، العقيدة، التي يدافع بها الاسلام السياسي عن نفسه. من دون هذا الدفاع تتوقف إمكانية احزابه عن دحر معارضيهم واستبعادهم عن الساحة السياسية والتخلص من سلطان تأثيرهم على اتباعهم. من جانب الحق والعدل أجد نفسي امامهما للقول ان من حق كل انسان ان يتبنى العقيدة التي يقتنع بها. لكن لا بد من تذكير السادة في احزاب الاسلام السياسي ان الله وهب الانسان عقلاً للتفكير. اول الأشياء التي ينبغي عدم نسيانها هو ان (الشيطان)، كما قالت الكتب السماوية، مخلوق افتراضي من اجل ان يوبخه الله، دائماً، ليكون نموذجاً شريراً، امام الناس اجمعين. في ذات الوقت يصرّ قادة أحزاب الإسلام السياسي ان الله خلقهم ليشيروا، بأصابعهم، الى أنفسهم، أنهم (ملائكة صفاة) أوكل الله إليهم مهمات ترويض (الشيطان) بأساليب تتفوق على جميع أساليب الشياطين، الموجودين في العالم السفلي والعلوي، في شرق العالم وغربه، مهما سالت في أراضي العالمين من دماء البشر.   

الانسان العراقي يعيش في الوقت الحاضر بحالٍ من الأسطورة، انه بين اسطورة الواقعية المجلجلة بميلشيا (الشيطان) واسطورة اللاواقعية المكتنزة في خزانات وملفات أحزاب الإسلام السياسي، الحاكمة في العراق منذ عام 2003.  إنه الهروب من الواقعية حين يجد كل مواطن عراقي نفسه امام الحاكم المتلبس بالدين والسياسة، امام حاكمٍ متعالٍ لا يخفق، ابداً، في عبادة الله لأن هذا الحاكم اوجد مكانته في عراق ما بعد عام 2003 بأمرٍ من الله...!  كل تأويل وكل تفسير لكتاب الله ممكن، فقط، من قبل أحزاب الإسلام السياسي حيث تعلن فلسفتهم، صراحة وتقول: أن كل واحد ليس معهم هو شيطان...!  

 الله نفسه حذّر ويحذّر جميع الناس، بما فيهم الناس المنتمين الى جماعة سياسية - دينية كالإخوان المسلمين او جماعة اخرى منتمين الى حزب سياسي - ديني كحزب الدعوة في العراق وجميع الأحزاب الشقيقة له والمماثلة لهما، من ان مهمات الشيطان كثيرة وعديدة، لكنهم الوحيدون غير مشمولين بالشيطنة، كأن (الشيطان الأكبر) أو (الشيطان الأصغر) لا يملكان جذوراً بينهم وان مطرهما لا ينزل على سهوب احزابهم.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

بصرة لاهاي في 20 شباط 2020

 

عرض مقالات: