كان قد انقضى شهر او اكثر قليلا على انهيار نظام صدام حسين واحتلال العراق سنة 2003، حين وقع نظري اول مرة على اسم الرفيق ابراهيم الخياط، مذيِّلا رسالة وصلتنا من مدينة بعقوبة. كنت وقتها اتهيأ لمغادرة بغداد مع بعض المواد الصحفية في طريقي الى اربيل، لأقوم مع بضعة الرفاق الذين ظلوا يديرون عمل الحزب، وبضمنه الاعلامي، من مقره في بلدة شقلاوة، بتحرير العدد الجديد من جريدتنا “طريق الشعب”، ولأطبعه في مطبعة روشنبيري الاربيلية، وأعود به سريعا الى بغداد. كنا حتى ذلك الحين قد وزعنا في بغداد عددين من الجريدة اصدرناهما بهذه الطريقة: نحرر في شقلاوة، نطبع في اربيل، ونوزع في بغداد ومنها الى الارجاء. وخلال ذلك حوّلنا الاصدار من شهريّ حتى آذار 2003 ، الى اسبوعي اعتبارا من عشرينات الشهر التالي –نيسان. وها انا استعد للتحرك شمالا مرة اخرى، لأعود بعد ايام حاملا العدد الثالث الذي سيكون جاهزا للتوزيع في موعده الجديد - الاسبوعي.
كتب ابراهيم الرسالة الموجهة الى الجريدة بصيغة اقرب الى الخبر، وعكس فيها اجواء الارتياح بين جماهير بعقوبة، خاصة في اوساط مثقفيها، للواقع الجديد الناشيء غداة انهيار سلطة الطاغية، والآمال في ان يكون الخلاص منه ومنها نهائيا. كما عكست الفرح بـعودة “طريق الشعب” الى الشارع البغدادي، وكونها الجريدة الوطنية الاولى التي تلقفتها ايادي العراقيين بعد السقوط، اضافة الى الاستعداد لمراسلتها وإمدادها بأخبار المدينة ومحافظة ديالى.
كانت اول رسالة من نوعها تتسلمها الجريدة فيما هي تضع احدى قدميها من جديد في بغداد، وإذْ يتواصل الجهد كثيفا لضمان انتقالها الكامل عاجلا، وتأمين مستلزمات استقرارها وطباعتها في العاصمة.
وعندما وصلتُ مساء ذلك اليوم الى مقرنا في شقلاوة، كان اول ما انصرفت اليه هو صياغة خبر للجريدة من الرسالة. وقد احتل الخبر بعد ذلك مكانه على الصفحة الاخيرة لعددنا الجديد، والى جانبه صورة وصلت مع الرسالة يظهر فيها ابراهيم نفسه امام مكتبة في بعقوبة، يلتقي فيها ادباء المدينة ومثقفوها.
هكذا كانت البداية مع العزيز الفقيد ابراهيم، الذي ظل في الاشهر التالية يتواصل مع الجريدة ويسعى لامدادها بالاخبار وما يتيسر من المواد الثقافية. وقد سرّني جدا ان الاحظ خلال ذلك انه يتمتع بقدرات صحفية وادبية لافتة.

2
انفتحت الصفحة الثانية لعلاقتي مع فقيدنا، في وزارة الثقافة التي باشرتُ في آب 2003 مهمة ادارتها. فقد واجهتنا في الاشهر الاولى مهمة صعبة، تمثلت في اختيار عناصر نظيفة كفؤة مخلصة وأمينة، لادارة دوائر الوزارة وأقسامها وشعبها بدلا عن مسؤوليها الموروثين من النظام المنهار. وبما ان الكثير من الامور وقتها كان لا يزال غير واضح وملتبسا، فقد كان لا بد من جهد مضاعف لضمان حسن اختيار المسؤولين في المستويات الوسطى اضافة الى العليا.
وكان المكتب الاعلامي في الوزارة احد المواقع التي سعينا في تلك الظروف المعقدة للعثور على مسؤول مناسب لها. وفي وقت لاحق من عملي في الوزارة تبيّنتُ بارتياح اننا توفقنا في اواخر سنة 2003 في اختيار أبي حيدر رئيسا للمكتب.
فقد توفق تماما في ادارة العمل، وهو ما تؤكده زميلته في المكتب آنذاك شميران مروكل، رغم انه كان يخوض التجربة الوظيفية لاول مرة. لكن الاهم هو نجاحه في الجانب الاعلامي وفي نسج وتطوير الصلات مع الوسط الاعلامي الذي كان يتشكل آنذاك من جديد، متحررا من وجوه وأدوات اعلام النظام الدكتاتوري. كذلك في العلاقة مع الوسط الثقافي ذي الاهمية الكبيرة بالنسبة الى الوزارة، وهو الذي كان اصلا قريبا منه جدا وحتى لصيقا به.
وتضيف شميران انه بوجود الراحل في تلك الفترة “تحول المكتب الى ورشة عمل ودورة تدريب حقيقية للعاملين فيه. كنا نعمل مثل خلية نحل بالامكانيات المتواضعة حينها، نظرا لضآلة التخصيصات المالية للوزارة”.
لقد اعتبر ابو حيدر عمله في الوزارة يومها مهمة نضالية وطنية وثقافية وتكليفا حزبيا. لهذا فانه، بعد انتهاء مهمتي في الوزارة ومجيء وزير جديد مغاير تماما في كل شيء، اختار ترك العمل فيها “احتجاجا على تولي ضابط شرطة حقيبة وزارة الثقافة”، وأعلن ذلك في كتاب استقالة موجه الى الوزير، نشره وكان له دويّه يومذاك.

3
بدأت الصفحة الثالثة لعلاقتي مع فقيدنا الخياط غداة انتهاء مهمتي في مجلس النواب سنة 2010 وعودتي الى العمل المباشر في “طريق الشعب”.
حينها كان هو قد تحوّل بجلّ اهتمامه نحو اتحاد الادباء، وانخرط في فعالياته الادبية والثقافية المتنوعة وفي نشاطه المهني ايضا باعتباره منظمة معنية بالادباء والكتاب وبأحوالهم وحقوقهم. وخلال ذلك لم تضعف صلته بالجريدة، التي ظل يرنو اليها باعتبارها “حبه الاول” في العهد الجديد.
وعندما انصرفت انا من جديد الى الجريدة، توفرت لنا كلينا فرص افضل واكثر للتواصل والتداول والتعاون، بما يرفد عمل كل منا في ميدانه والعمل المشترك الثقافي والاعلامي، خاصة وانني كنت انشط ايضا في اطار “الجمعية العراقية لدعم الثقافة”.
وقد امتدت هذه الفترة طويلا نسبيا، حتى وفاته المبكرة المفجعة في العام الماضي. وفي اثنائها حفلت حياته ومسيرته بتطورات ملفتة، ثقافيا ومهنيا على حد سواء.
فلقد تنامت قدرته الشعرية وتفتحت موهبته، واجتذب الانظار خصوصا بقصائده التي تغني مدينته الحبيبة بعقوبة، رابطا اسمها بالبرتقال ومكرسا تسميتها “مدينة البرتقال”. وبلغ الذروة في ذلك حين وشح ديوانه الشعري بتسمية “جمهورية البرتقال”.
والى جانب هذا اكتسب بنشاطه المثابر والمتفاني في اطار هيئات اتحاد الادباء، ثقة جمهرة اعضائه الواسعة، فانتُخب لعضوية المجلس المركزي، ثم لعضوية مكتبه التنفيذي، واخيرا للموقع الرفيع: الامانة العامة.
كما انه انغمر في الكتابة للصحف والمجلات، وكان لجريدته “طريق الشعب” معظم حصة الاسد من نتاجه الصحفي الغزير، والذي توّجه بعموده الاسبوعي “تغريدة الاربعاء”، الذي ظل يظهر على الصفحة الاخيرة طوال سنوات، والذي كانت يحظى باهتمام جمهرة واسعة من قراء الجريدة ومن متابعي العديد من المواقع الالكترونية.
اما الحصة الكبيرة الثانية من نتاجه ومن جهده الصحفي – الثقافي، فكان من نصيب مجلته “الاثيرة” (كما كان يحلو له الوصف) وأعني “الثقافة الجديدة”، التي اعرف شخصيا مدى اعتزازه وزهوه بها وبتاريخها ومكانتها المتفردة في الثقافة والفكر العراقيين، والتي وهبها الكثير من روحه ومن حراك ذهنه ثقافيا وصحفيا، وخصها برسالته في الماجستير المعنونة (مجلة “الثقافة الجديدة” ودورها الثقافي في العراق/ دراسة تحليلية في مضامين فنونها الصحفية في مرحلة العهد الملكي).
وقد تكفي الاشارة هنا الى انه اسهم مباشرة في تحرير المجلة عبر اشرافه منذ سنة ------ حتى رحيله، على ملفها “ادب وفن” الذي جدد فيه وطوره واجتذب للكتابة على صفحاته العديد من الادباء والكتاب والشعراء والفنانين والنقاد والمترجمين وغيرهم، حتى غدا بحد ذاته منبرا متميزا للابداع الادبي والفني.

4
هذه العلاقة الصميمية والفاعلة للفقيد أبي حيدر مع “طريق الشعب” و”الثقافة الجديدة” وبقية منابر الحزب الاعلامية والثقافية، هي ما جعله عنصرا دائم الحضور وضروريا في مجمل الفعل الاعلامي والثقافي لحزبنا. عنصرا مطلوبا ليس فقط في الكتابة والمشاركة المباشرة في النشاطات الثقافية والاعلامية بشتى صورها، بل كذلك في التنظيم والتدبير والتهيأة والاشراف والتنفيذ والمتابعة.
وقد تجلى هذا بأفضل الاشكال في إسهامه المهم في “مهرجان طريق الشعب” السنوي، الفريد من نوعه في العراق وفي تاريخ الصحافة العراقية، ودوره الكبير متعدد الصور في اقامته وفي تطويره، دورةً بعد دورة. وذلك بدءا بالدورة الاولى ربيع 2013 وانتهاء بالسادسة خريف 2018 ، وهي الاخيرة بعد ان تعذرت اقامة الدورة السابعة في تشرين الثاني 2019 ، في ظروف اندلاع الانتفاضة الشعبية.
كنت ترى أبا حيدر على مدار الساعة طيلة يومي المهرجان، منذ صباح الخميس حتى مساء الجمعة، يتحرك في كل زاوية من ارض المهرجان الخضراء وفضائه الضاج بالحياة والحركة هادئا مراقبا متأملا ، وتلمحه منصتا متابعا في كل ندوة ونشاط وفعالية اعلامية او ثقافية او اجتماعية، تقام في الهواء الطلق او في احدى الخيام المنتشرة في جنبات المهرجان.
لكنك لم تكن لتستطيع رؤيته في الاشهر السابقة لافتتاح المهرجان، أشهر العمل التحضيري الطويل والدقيق والمضني، الذي كان ابو حيدر يشارك بنصيب متزايد كل عام في تنفيذه وقيادته.
وفي دورتي المهرجان الاخيرتين بنحو خاص ارتقت بجلاء نوعا وكما مساهمته في إقامة المهرجان وتأمين نجاحه، وتلمسنا جميعا، نحن المعنيين بالمهرجان مباشرة، صعوبة تصور تنظيم وانجاح هذا الحدث متزايد الاهمية، في غياب مشاركته الفعالة والمبادرة والمبدعة.

5
اعيد قراءة السطور اعلاه، فاكتشف انها اقرب الى عناوين تخفي الكثير الكثير من التفاصيل ذات الاهمية، وهي ليست بالطبع كل العناوين الجديرة باطلاع القاريء عليها، ليتعرف بنحو افضل على شخصية الخياط وإنجازه، وليدرك ونحن نستذكر هذه الايام ذكرى وفاته الاولى، أيَّ فتىً فقدنا برحيله الابدي. وعذرنا ان هذا هو كل ما يسمح به المجال المتاح على صفحات مجلته – مجلتنا العزيزة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقالة منشورة في عدد “الثقافة الجديدة” الجديد، الذي ننتظر صدوره خلال يومين.

عرض مقالات: