لم تكن (اللازمة الشعرية) ، المبتدعة من شعاعِ العقلِ الشعري، المظفري ، الهادئ، المتغيّر مع الزمن ، المتجه نحو العصر الشعري ، الجديد، قد رمتْ نفسها رمياً توفيقياً او رغبةً للتأثير على (المصادفة اللغوية) في اجتماع بضع كلمات متناسقة يريد لها ان تذهب بسلام الى قلوب جميع العاشقين و المحبين أراد منها ان تكون معافاة لعلة بقلب المرأة الواثقة بلمساتِ كلامِ شاعرٍ يريد ان يحييها،
لم تضم اللازمة الشعرية صورة جلاّد وضحية ،
ليس في كلام الشاعر ثورية السعادة ولا تهديداً بتنمية تعاسة العنف و الانتقام ، كما هي العادة في زمان العنوة والاستبداد و انتشار البلايا الاجتماعية، بمختلف اشكالها و ألوانها، الفردية و الجماعية ،
لم تكن ، اللازمة ، وحياً موجهاً الى قلبٍ موجوعٍ،
لم تكن رثاءً موحشاً و لا رغبة متغطرسةً على واقعٍ متبجحٍ،
كما لم تكن شعلةً شعريةً شعائرية ،
لم تكن كلماتها فرعاً من فروع الاخلاق الدينية ولا دعاء الى ربٍ قديرٍ ،
لم تكن اللازمة صراخاً و لا صدى لصراخ امرأة سيطرَ رجلٌ جبارٌ على قلبهِا، ثم ألحقَ بها ضربة عنيفة، لكن (لازمة) الشاعر مظفر النواب ما اظهرتها خائفةً ، مضطربةً ، مهزوزة في شبابها او في ساحة عشقها .
كانت اللازمة اختياراً مظفرياً، فردياً، محدداً بالإصابة المقصودة من الشاعر ،نفسه ، لإيجادِ نوعٍ من انواع الاتصال الشعري بين حدود ( اللهجة العامية) و زينات او طيبات حدود ( اللغة الفصحى) .
كان يعدّ العدّة للتزاوج بين الأثنين . كان يبحث ، ايضاً، عن ( المفردة) المرتدية ثوب العامية و ثوبا فصيحاً ، في آنٍ واحد.
لم يرغب ناظم قصيدة ( للريل و حمد) في أن يطمس الروح التجديدية في اشعار نازك الملائكة و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و بلند الحيدري و غيرهم من التأثير على شكل و مضمون قصائد الفصحى . . لم يمنع مظفر النواب ، نفسه ، من استخدام تراكيب الشعر الشعبي بقصدِ تبسيطِ عمليةِ انتقالهِ الى عصرٍ جديدٍ ، بعد ان غذى الطابع العام لقصيدة ( الريل) بروح تجديد خاتمة البيت الشعري بــ( اللازمة الشعرية) مطلقاً : هودر هواهم و لك حدر السنابل كَطا.
يهمني هنا، ان أرتقي ، بالنظر الدقيق ، الى خمس درجات في سلّم القصيدة . كل درجة تحمل سحراً طيباً عن كلمةٍ مشرقةٍ، طيبةٍ، من كلمات (اللازمة ) الطيبة ، حيث نجد كلمات مظفرية، راقيةً، لتحقيق الهدف من تجديد خصال القصيدة الشعبية .
هذا الارتقاء لم يكن صدفة مظفرية ، بل كان قفزةً تاريخيةً قي القصيدة الشعبية ، تخصص في صناعتها مظفر النواب ليكون منطلقها الأصيل ، الكلمات الخمس الأصيلة ، التالية:
(١) - هودر . انها كلمة تحكى بلسان الفلاح الجنوبي و الاستاذ الجامعي. ، معاً.
هودر .. كلمة لها حد بسيط من الحساسية في اللهجة العامية ، ذات الرغبة المتتابعة ، لدى العديد من بدو الصحارى و بعض عشائر الفرات و الجنوب في العراق . ربما ابعد و أوسع من هذا. هذه الكلمة الفصيحة ، لم تتكبّر على معناها العامي فقد كان تضرعهما واحداً.
(٢) - هواهم. الهوى رغبة لها معنى الحب و العاطفة او أية أفكار متعلقة بهما.
(3) - (حدر).. انها كلمة لهجوية ، عامية و فصحى ، تتضمن الفكرة الصحيحة عن معنى كلمة (حدر) هو (تحت) . نحن سكان مدينة البصرة نجد هذا المعنى محصوراً بكل أنحاء الجهات البصراوية في المدن و القرى ، ابتداء من الفاو على الخليج العربي ، صعوداً مع نهري دجلة و الفرات و ما حولهما.
(4) – (السنابل). كلمة السنبل معروف معناها و شكلها و موسمها، لدى اغلب ابناء القرى والارياف ، حين يتحدثون ، باللهجة العامية، في كلِ مكانٍ ، عراقي، ايام الموسم الزراعي لنبات الحنطة و الشعير . كذلك هذا الاسم معروف بـ(المدرسة) و (الكلية) و باللغة الفصحى : (سنبلة) و (سنبل) و جمعهما (سنابل) ، في ما يتعلق بظاهرة نضوج زرع الحنطة و الشعير و الذرة . ربما هناك مسميات اخرى لا شأن لنا بها ، عند الحديث عن قصيدة (الريل).
(٥) - ( كَطا). طير من الطيور المهاجرة . نبيه جداً. لا يستطيع العيش من دون ماء الأنهار و الأهوار . جميلٌ بكل شيء من أشياء مظاهره ، حتى بمنافسة ألوان الطاووس و ريشه. كما ينافس بجماله و عطائه نهد الشابة الجميلة غصبا على جميع حراس الهياكل الدينية وعلى تسبيحهم و حمدهم وأبواقهم.
هذه اخلاقية الصفات الخيرة المميزة لكلماتٍ خمسٍ ، في تعبيرات الذوق الشعري في (اللازمة المظفرية) . كلمات لا تخلو من مبداً عقلي - شعري و من اشعار قلبية ذات معانٍ ، كلاسيكيةٍ و حداثويةٍ ، عامية و فصحى ، تجمعت و تتجمع بكلِ كلمةٍ من كلماتهِا حصى المعاني الصحراوية و طين الألحان الريفية .
يأتي بعد ذلك سؤال عاصف: من اين أتى الشاعر مظفر النواب بهذه الكلمات الخمس المعنية باللازمة ، و هو شاب لم يحترق عقله بأي صحراءٍ عراقيةٍ ولا بأمواجِ الاهوارِ الهادئة و لا وسط نيران الارياف العشائرية ، المتقاتلة بالكلمات و الكلام المعاد و الرصاص. من اين جاء مظفر النواب وهو طفل ، ثم شاب ، وُلد في بيئةٍ عائليةٍ بورجوازيةٍ، ليس فيها أية ممارسة من ممارسات البطش و القوة . من يراقب طفولة و شبابية النمو النوّابي في حياة مظفر الشاعر ، يجد جواباً على هذا السؤال الكبير المتضمن شعوراً مباشرا بالجمال اللفظي و بالفلسفة العاطفية . كلاهما، الجمال و الفلسفة ، تجليا بمعانيها الرومانسية الشعبية ، لدى الشاعر مظفر النواب من رعايته لنفسه ، من صبغته الخاصة في تكوين شخصيته و أصالته الشاعرية ، حين ادرك ان صداقة الناس الفقراء القادمين من مختلف صنوف المجتمع المسيطرة عليهم (الروح ) الى جانب (الجسد ) و (النور) الى جانب (الظلام ) و (الأمانة) الى جانب (الغنيمة الإبداعية) في الموسيقى و الشعر .
مثلا ، حين تم اعتقال مظفر النواب ، بخمسينات القرن الماضي بتهمة القتل ، ملفقة من قبل بعثيين. ظل لمدة 4 اشهر بموقف في بغداد يضم موقوفين عاديين و موقوفين سياسيين . بعد براءته واطلاق سراحه اعلن ان (الموقف) عرّفه على الناس ( العاديين) وعلى عاداتهم و على ( لغتهم). هكذا هو الشاعر الحقيقي يغمر نفسه في حمأة أعماق المجتمع.
نعم ..
من صلته الاولى مع الأدب و مع الحياة الواقعية ، من حضوره بين الناس المختلفين في ثقافتهم ، حضر أمان الكلام و عمران معانيه في اللغة العربية المظفرية ، العامية و الفصحى.
نعم...
كان زيتُ كلامه الأول فاعلاً لديه ، محركاً عواطفه الإنسانية ، حين قام بزيارة الأرياف و الاهوار، شاباً، وجد ان في داخله الإنساني صوتٌ يريد اللجوء الى الحرية و الصراخ ، لأن ما شاهده بحياة الناس الفقراء، ذلاً و عنفاً لا يستحقونه من مضطهديهم الملاكين و الاقطاعيين ، الأغنياء.
نعم ...
عاش مظفر النواب بعض سنوات عمره في مخترعات صحراء (النقرة) البغيضة ، بأجواء كافرة بالتاريخ الطبيعي للأمطار و العواصف الرملية ، التي ما شاهد مثيلاً لها، لا شارل دارون ( ١٨٠٩- ١٨٨٢) و لا كريستوف كولومبس ( ١٤٥١ - ١٥٠٦ ) و لا جان جاك روسو ( ١٧١٢ -١٧٧٨ ) ولا أي انسانٍ من جنسٍ، ساميٍ او آري .
نعم ...
من يعيش العوامل الطبيعية في (النقرة) فأنه يجد نفسه ، مثل الشاعر مظفر النواب و أصحابه ، يواجهون عاصفة مطرية مسبوقة بعاصفة ترابية تنكّل بالمظلومين ، بما يفوق ادراك الاحياء من البشر، او معقوبةً بغبارٍ يعمي البصر . لو كان أي واحدٍ من هؤلاء الشخصيات العالمية الثلاثة قد واجه تأثيراً سيكولوجياً بمستوى عذاب المظاهر، السياسية و الطبيعية ، في (نقرة السلمان) لما كان العالم قد تعرّف على القارة الامريكية ( قارة كولمبس) أو على (ديمقراطية جان جاك روسو) أو على (نظرية دارون) عن التطور البشري.
كما ان ما اكتشف في كلِ مكانٍ بالمجتمع العراقي ، كان يواجه كلَّ انسانٍ يحاول ان يعبّر او يوضّح او يفسّر بكلمات عربية مشتقة من لغة القران ، الصعبة او من لغة الشعر الجاهلي ، المتنوعة الصعوبة ، ما استطاع إلى ذلك سبيلا..!..
نعم ...
يملك كل مواطن عراقي نموذجين من اللغة اليومية .
- نموذج يتغير بين الأدب و الفن و البناء اللغوي، خطاباً و كتابة، محتذى في المدرسة و الجامعة و و المؤسسة الحكومية . رسْمُ هذا النموذج و نبرته الصوتية لن يتغيرا . في غالب الأحيان متوفر في خزائن ميراث اللغة الفصحى .
- النموذج الثاني هو النموذج الانساني الأكثر و الاوسع تداولاً في الارض الواحدة، الصغيرة او الكبيرة ، لأنه يُستخدم من قبل الأكثرية الساحقة من ابناء الوطن. اي انه نموذج (اللغة العامية ) بين الشعب ، كله.
النموذج الاول لغة ( الكتابة) و النموذج الثاني لغة (التفاهم).
اراد مظفر النواب ان تكون (اللازمة الشعرية) مولّدة لغة واحدة ، او الى لغة مفهومة ، واحدة أو إلى لغة متقاربة . لان اللغة تنمو بغذاءٍ واحدٍ و في جوٍ واحدٍ و على ارضً واحدة . ما على الشاعر الا المساهمة في ان تكون جميع الزهور المتشابهة بالمعنى ، نامية المبنى من نفس البرعم.
من هذه ( اللازمة ) و بها و فيها، اراد الشاعر مظفر النواب ان ينفّذ ، بنفسه، قناعته بمحاوراته مع ابن خلدون في علاقة ( الفرد) بـ(الدولة) من جهة أولى . ثم عن طريق تقريب العلاقة اللغوية ، الشعرية ، من جهة أخرى .
فعل الشاعر النواب نهجه باللغة الشعرية ، خالطاً بين العامية و الفصحى، القادرة على التقريب بين لغة المواطنين من الاكثرية الأمية مع لغة الأقلية من الموظفين في مؤسسات الدولة ، من المتعلمين قراءة و كتابة اللغة الرسمية ، بشيء من تغير ظواهرها و حركة معانيها . اراد استبعاد الخلاف في معاني الكلام العربي بين ما هو (مدون ) لدى عظماء العرب و شعرائهم ولدى جميع الكتاب و الأدباء ، و بين ما (يتحدث ) به الفقراء من الأميين بالقرى و الارياف و المدن .
اخذ الشاعر مظفر النواب شيئاً من العلاقة بين (المدوّن) من اللغة و (المتحدث) بها .. أخذ رابطاً لغوياً منها، ليتمكن من ربط الحاضر بالماضي و ربط المستقبل و اشتقاقات لغته بالبيئة الشعرية - الشعبية لمواصلة الحكي عن البشر و الحب البشري او لمواصلة مسرحية العيش البشري في نطاق ( المقامة) الأدبية بمستوى مقامات الحريري او مقامات بديع الزمان الهمداني.
كانت قصيدة ( للريل و حمد) واحدة من نماذج تقف بمواجهة الأدب الشعبي المتجدّد ، صعوداً، مثل نخلة القرنة او مثل سدرة ابي الخصيب. حيث موطن أشجار اللغة العربية و تطور بعضها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع