في "رانية" عسكر لواؤنا بعد أن خرج من معارك "مهران" الرهيبة وجسده مثخن بجراح كثيرة، بدأنا بالتدريج بالمسح على الجراح ، ولملمة البقية الباقية من الجنود وتقرر أن يعاد تنظيمه في مكان قريب من الشارع العام حيث وضع أحماله وهو ينفض بقايا بارود المعركة الشرسة التي أصابته في القلب حيث سال دم كثير، ولم يسلم من جنوده الا من كان مجازا او استطاع أن يهرب بعيدا قبل نشوب المعركة أو من وقفت معه الاقدار والصدف كي ينجو وهم قلة ، تقرر أن يعاد تنظيم اللواء في رانية ، واختير له مكان قريب من البيوت التي شكلت امتدادا لبيوت القضاء... ولأن المعسكر ربما يهاجم في أي وقت ، تقرر أن تكون هناك نقاط حراسة ليلية ونهارية.. اختار ضابط الاركان سطح احدى البنايات ليكون نقطة حراسة تقابلها نقاط حراسة اخرى... البناية التي يشغل سطحها نقطة الحراسة كانت مخصصة لجنود مكتب اللواء.. وقد تم توزيع الواجبات الليلية علينا ، في اليوم الاول لحراستي وكانت تبدأ من منتصف الليل حتى الساعة الثانية صباحا.. ومن مكاني المرتفع كنت اراقب الازقة والمقتربات..أو أمضي اغلب الوقت في مراقبة النجوم والاضواء الساقطة من السماء أو تلك التي تخترق الستائر المنبعثة من النوافذ والتي تشكل منجماً رهيبا للصور.. الصور التي تداهم مخيلة جندي يجلس متخشبا فوق سطح بناية غارقة في الظلمة.. الصور التي تتدفق وهي نابضة بالحياة التي تدور خلف النوافذ الموصدة والمغطاة بالستائر.. احيانا أرى حركة واضحة من إحدى النوافذ ربما يضخمها خيالي لامرأة مفترضة تجلس متوحدة تراقب الشارع وربما تتطلع ناحية السطح القريب منها حيث ترى شكلا مفترضاً أو حقيقيا لجندي ممتلئ بالفتوة.. فتوتها تتداخل مع فتوة الجندي الوحيد.. وتوحد الجندي وبقايا وسامة وشباب يطل من سطح البناية المشرفة على المدينة والزقاق... ومن يومها وضعت علامة على النافذة التي كنت اعتقد أنها لامرأة متوحدة ، تختار الساعتين اللتين امضيهما في الحراسة لتقترب من النافذة.. وتبدأ بمراقبتي.. كنت أحرص على أن اراقب النافذة بتركيز عجيب يتيح لمخيلتي أن تتحرك في هاتين الساعتين بحرية وعمق كبيرين ، وأنا اسلسل تفاصيل اقترابها من النافذة.. والتصاقها بشباكها، وتزيد من ضغطهما عليها.. الأمر الذي يؤدي الى اقتراب نصفها السفلي من حافة النافذة ، حينها أقف وأنا أقترب من السياج الكونكريتي لنقطة الحراسة.. ولا أعلم كيف يمر الوقت.. أحيانا حينما تكون مخيلتي جاهزة.. يمر سريعا دون أن أحس به.. وأحيانا يمر ثقيلا حينما أتخيلها قد أدارت ظهرها للنافذة ومضت بعيدا.. أبقى أنتظر وأنتظر.. وتفشل مخيلتي في استحضارها قريبا من النافذة. وقد عمدت في النهار المرور من الشارع الذي تطل منه النافذة.. اجد أن الحركة فيه معدومة.. وأتطلع الى الباب اتوقع أن تفتحه حالما أقترب منه.. مرت شهور وأنا أنتظر وأرسم لها في كل يوم صورة جديدة... وأحيانا افكر فيها وأنا في اجازتي.. وربما حدثت أحد اصدقائي عنها كحقيقة ملموسة أحاورها وتحاورني ، حينما تأخذنا حمى الجلسات في ليالي بغداد.. كان في أول الزقاق دكان صغير لرجل كبير في السن يبيع السكائر والبقوليات.. اشتريت منه علبة سكائر وحينما سألته عمن يسكن بيت النافذة الليلية.. هز رأسه بعلامة غريبة.. ولم يجبني.. تركته ومضيت...وقلت في نفسي : حسنا فعل ، لأنه بصمته وعدم اجابته أبقى امرأة النافذة حاضرة في مخيلتي والتي أستطيع أن استحضرها في الوقت الذي أشاء.. مخيلتي التي تدخل عميقا وهي تقترب من مكمن أدق اسرارها ، لكنه في المرة الثانية التي اشتريت منه علبة سكائر ، قال لي دون أن اسأله : أن البيت فارغ منذ سنوات ! ولولا هذه العبارة لبقيت امرأة النافذة سيدة حكايات آخر الليل وسط سكون مهيمن ولبقيت سراً كبيراً يختبئ خلف اسرار كبيرة لم يعرفها أحد سواي.
ضد النسيان.. فتاة النافذة الموصدة
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 1584