ينهض الدرس العلمي، سواء أكان داخل الجامعة أو خارجها، بمهمات معرفية وعقلية في الجوهر، وهي مهمات ذات طبيعة موضوعية تماماً مهما اختلف موضوع البحث: الفيزياء، الهندسة، الطب، التاريخ، الاقتصاد، العقائد، اللغة، الأدب، الفن، الفلسفة ... إلخ. وإذا ما تأملنا هذا الوصف الموضوعي طبيعة الدرس العلمي والأكاديمي، جاز لنا القول إن من الضروري أنْ تنعكس طبيعة العلم في لغة البحث العلمي نفسها. ومن هنا يمكننا القول إن للبحث والدرس في رحاب الجامعة، أو خارجها، لغة خاصة به، أو كلام مخصوً بحسب دي سوسير. وإذا كان من الضروري أن تتوافر لغة البحث العلمي على شروط السلامة النحوية، وهو ما لن نتطرق إليه في هذه المقالة لأن مثل هذه الشروط من قبيل المبادئ التي لا يجادل فيها أحدٌ. ونؤكد على وجوب أن تتوفر لغة البحث العلمي على شرط آخر هو شرط بلاغة الخطاب العلمي والأكاديمي. إذ أن للغة الخطاب العلمي مزاياها، أو بلاغتها، التي ترتبط على نحو وثيق وعضوي مع طبيعة البحث العلمي نفسه. وهي بلاغة خطاب وليس بلاغة نص، بمعنى أنها تنهض على حقائق الخطاب ومناسبة المقال لمقتضى الحال أو السياق، وليس على اللعبة البلاغية التزيينية التي قد تكون لها أعظم الضرورة في الشعر والأدب والعقائد. ومن هنا تتحقق فرضية أن لغة الخطاب العلمي والأكاديمي ذات مزايا خاصة. ومن أبرز هذه المزايا أن لغة البحث العلمي يجب، ودائماً يجب، أنْ تتسم بالآتي:
أنها لغة ذات منحى موضوعي، فلا سبيل في لغة العلم للعبارات الانطباعية أو الذاتية أو التي تعبر عن مواقف أو عقائد شخصية.
أنها تتسم بالدقة في وصف الظواهر المدروسة وتصنيفها وتحليلها ثم بناء الاستنتاجات المستمدة من صيرورة البحث العلمي نفسه، وتستند على منطقه الداخلي.
أنها لغة تحتكم، أساساً، إلى الأدلة المستمدة من موضوع الدراسة ونصوصها قدر الإمكان، وتتجنب الأفكار غير المبرهن عليها، أو تلك المستندة إلى تصورات ذاتية، أو انتحاءات آيديولوجية.
أنها لغة تدعم مقولاتها من خلال الابتعاد عن الإفراط في التعميم. ويجب أن يستخدم الباحث العبارات الدالة على معرفته بحدود حريته في صوغ ما يريد التوصل إليه بلغة تناسب المقام العلمي الذي يقوم على الشك أولاً وصولاً إلى اليقين المرحلي أو النسبي.
إنها لغة تستثمر المصطلحات والمفاهيم الضرورية التي يستلزمها موضوع البحث، مع وجوب إيراد تعريف دقيق لكل مصطلح يستخدمه الباحث لتجنب الخلط بين التصورات والمفاهيم المختلفة للمصطلح الواحد. وهذا نابع من أن للمصطلح الواحد تصورات وتعريفات مختلفة باختلاف الباحثين.
ويمكن الاستغناء عن ضرورة إيراد تعريف للمصطلحات إذا كان استخدامها في النص محكماً ودقيقاً على نحو لا يحتمل الغموض في فهم المراد منه، ولا يسمح بإمكانية نسبة مفاهيم مختلفة للمصطلح الواحد.
أنها لغة تتجنب المجاز والصياغات البلاغية قدر الإمكان لأن التعبير المجازي مما يفتح الباب واسعاً أمام التأويل وتعدد المعاني، بينما هدف لغة البحث العلمي هو التعبير عن معاني محددة بعينها، وبما لا يسمح بتعدد المعاني أو يفتح الباب أما التأويل.
أنها لغة تجنب الآراء الانطباعية أو التي ليس هناك من دليل مستمد من تجربة أو نص أو إحصاء أو إجماع علمي عليها، فهي لغة تستند إلى الحقائق لا إلى العقائد. ذلك أن العقائد يمكن أن تكون موضوعاً للدرس العلمي ولكنها ليست علماً بحد ذاتها.
وتتجنب اللغة العلمية الاطناب والتكرار في غير ما ضرورة لأنها تقوم أساساً على الاختزال والإيجاز والاقتصاد في اللغة.
قد يتفق معنا الكثير من القراء الكرام على انطباق مثل هذا الوصف على لغة البحث العلمي في مجالات معينة، كما في العلوم الصرفة (فيزياء، كيمياء، أحياء)، وعلى نحو أقل في العلوم الاجتماعية (اجتماع، اقتصاد، تاريخ)، ولكنه قد يتساءل عن كيفية انطباق هذا الوصف للغة العلمية على الدراسات والبحوث في الشعر والأدب محتجاً أننا جميعاً نعرف أن لغة الشعر والأدب تقوم، أساساً، على البلاغة والمجاز والانزياح وتعدد المعاني! فأقول إن لغة الشعر والأدب، وهما موضوع الدراسة الأدبية، هي غير لغة البحث في الشعر والأدب. ذلك أن اللغة ستختلف في الحالتين باختلاف الغايات والوسائل بين الإبداع الأدبي والنقد. فإذا كان الشعر والأدب يقومان على التوسع في البلاغة والمجاز بحثاً عن تحقيق اغتناء النص الأدبي وتعدد معانيه وتوسيع آفاق تأويله واكتنازه بما هو غير شائع أو مألوف من الصيغ التعبيرية، فإن الغاية في لغة الدرس الأدبي هي، حصرياً، تكوين صورة علمية وموضوعية ودقيقة قدر المستطاع، ومن خلال لغة ذات بلاغة مخصوصة، عن الظواهر الماثلة في النصوص الأدبية، وليس مضاهاة لغة موضوع البحث أو النقد الأدبي، أعني الشعر خاصة والأدب عامة، في نزعتهما البلاغية والمجازية. لذلك نقول إن للغة البحث العلمي بلاغة خاصة بها هي بلاغة لغة الخطاب العلمي.
ومع وضوح هذه الفكرة وبدهيتها، فإننا نلاحظ، وفي أحيان كثيرة، أن اللغة أو الأداء الكلامي للباحث أو الدارس، وفي بعض الأحيان، حتى ما يصدر عن الذين يناقشونه ويعقبون عليه، لا يراعي هذه الفكرة الواضحة التي تمثل مسلمة علمية مقررة يصدر عنها كثير من الباحثين من ذوي المنزلة العلمية الرفيعة في كثير من الجامعات؛ فتجد أن لغة هذا الباحث أو ذاك، أو لغة من يعقب عليه، مغموسة بالانحيازات الذاتية، والعقدية، وهي غارقة في الأداء البلاغي، ومتورطة في التعبير عن مصادرات على المطلوب، ومتخمة بالإطناب، وتبتعد عن الدقة الاصطلاحية.
إن هذا الوضع يدفعنا إلى القول إن هذا النوع من اللغة يعاني من ضعفا جسيما في بلاغتها لأنها لم تكن متناسبة مع مقتضى الحال. وأرى أن هذا الوضع المؤسف هو نتيجة متوقعة لحقيقة أن الدراسة الأكاديمية تفتقر، على نحو مطلق، إلى أية محاضرات علمية متخصصة في لغة البحث العلمي. وهي المحاضرات التي يمكن أن تسهم في تنبيه الطلبة إلى طبيعة بلاغة الخطاب المكرس للبحث العلمي في شتى حقول المعرفة، وإلى ضرورة مراعاة هذه البلاغة عند الكتابة. كما يجد هذا الوضع المؤسف بيئة مناسبة للشيوع والانتشار نتيجة صمت الكثير من المناقشين والمعقبين عن الإشارة إلى افتراق لغة البحث العلمي عما يفترض فيها من بلاغة خاصة، وأيضاً عدم الأخذ بمبدأ محاسبة الباحث، في المعارف والعلوم كافة، على سلامة لغة بحثه من الضلالات البلاغية والتعبيرية عند تقويم البحوث. أليس كذلك؟

عرض مقالات: