صدرت المجموعة الشعرية (متى يكون الموت هامشا...؟) للشاعر أنمار مردان الطبعة الثانية عن دار الفرات للثقافة والإعلام – العراق – بابل. وأول ما لفت نظري هو العنوان الذي يشكل أحد العتبات النصية المهمة في انعاكسه على المتلقي وربطه مع المتن النصي ودلالته العميقة بوصفه خيارا واعيا، فيه قصدية مطلوبة، مبنية على أساس فكري وفني عميقين، ويشكل أيضا علامة فارقة لنصوص أخرى مماثلة. والعنونة بحسب جرار جنيت دالة على امكانية الكشف والتظهير بمعنى أنها تؤسس لمسارات التلقي. ويراها أيضا: " مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، وتشير لمحتواه الكلي وتجذب جمهوره المستهدف". استوقفني العنوان، كدعوة صادقة، للتقليل من سرعة الموت وكثرته، ورفض أن يكون سائدا، بل يعد دعوة للسلام ونبذ الحروب بكل أشكالها، وخاصة تلك التي لا معنى لها سوى الموت والإرهاب والتخلف، وفرض الإرادات، زعما بان أصحابها يمتلكون الحقيقة وحدهم، ولا توجد حقيقة نسبية، ويرفضون قبول الآخر والحوار معه، لتوفير القناعات بالحجة والمنطق العلميين، واحترام الرأي الآخر، عندها سيكون الموت هامشيا وأسبابه طبيعة ...
في القصيدة التي أخذت عنوان المجموعة يكثر الشاعر من الأسئلة التي تشير إلى هامشية الموت:
"فالموت بركة سمينة
نمد له الجوع بسلاسة محنطة
ونشطب أعمارنا كنهر تخيفه لذة العراء...
لماذا نتكئ على الطوفان
ونزور القبور بابتسامة"
هذه السخرية من استسهال الموت من دون التصدي للطوفان أي الموت الذي يجتاحنا ثم نبتسم للقبور ويختم قصيدته بمفارقة أخرى:
"فما زلنا نقدس الأرض كأنها الرب
وهي تسعى لتجهز لنا الحفر بنقاء..."
لم تستوعب هذه القصيدة كل المعاني التي أشرنا اليها، ولكننا وجدنا الكثير منها في القصائد الأخرى، نتجول في قصائد المجموعة، ونرى نظرة الشاعر للموت تتجسد في أغلب قصائده، ففي قصيدة (متى أحمل صراطي المستقيم )، نجد مفردات عديدة تشير إليه، ابتداء من العنوان الذي جاء متناصا مع النص القرآني، بتوظيف كلمة (الصراط) وسيلة العبور إلى الجهة الأخرى، ويمكن أن يكون هذا التوظيف إيجابيا إذا أراده الشاعر، إذ ينبغي على من يحمل الصراط أو يعبره، أن يكون مخلصا لعقيدته ومبادئه، وفيه كل الصفات الحميدة التي تجعله منتصرا للخير وضد قوى الشر بكل أشكاله.
وهناك تناص آخر مع النص القراني:
" أيتها النفس الرافضة
ارجعي
نصف ذاكرة
ولا تنتهك أي ذريعة عذراء"
وفكرة الموت وردت بعبارة غير تقليدية: مثلا " بعد حذفي " والذي جعل منها لازمة يطرح من خلالها أفكاره الجادة وبها ينهي قصيدته بحكمة:
" بعد حذفي
أكون ذريعة ناضجة الكمال
ومحطة أنظار كل الواهمين
القائلين:
إن الموت ليس حيا..."
وفي قصيدة (النهر الذي ودعني توا) مع أنها قصيدة عشق امتلأت بالصور الجميلة لكن صور الموت حاضرة أيضا ابتداء من رمزية العنوان فعادة نحن من نودع الأنهار وهي باقية، وحين ودعنا النهر يعني فيما يعنيه نضوب مائه أو تغيير مجراه وفي كلا الحالتين لم يعد للنهر وجود في مكان الراوي.
ومما يؤكد فكرتنا ما ورد في نهاية قصيدة (الحرب عند رمق الثلج):
" فهناك خدود سيتشوه لحمها أمامي
والأرض غير المطمئنة بخطوتها
تعلن حدادها على فقرها
والمطر ببدلته العتيقة يتكور هنا"
فهنا موت الأرض والمطر وهو نوع آخر؛ أحدهما سبب للآخر وكلاهما لا يجعلان الموت هامشا في الحياة.
وما نجده في عنوان واضح فالحرب لصيقة بالموت سواء أكانت عادلة ام غير عادلة وإذا الثلج يساهم في وقفها أحيانا بمعناه الواقعي كمعوق للحروب وبرمزيته بما يشكله من هدوء وسلام لكنه في رمقه أي في نهايته وهذا ما يؤكد بدء الحرب.
وفي قصيدة (في سلّمي متسع من الحبر) نجد أن الشاعر يجيد اختيار العنوان ويحدد مضمونه: وهو ليس معقدا ففي "السلّم " وهي كلمة نقيض الانحدار، وفيها متسع من الكتابة والحوارات وتبادل الأفكار، وهذا ما يرمز له " الحبر" ويمكن أن يكون هناك مجال لإعمال العقل والإفادة من التجارب، والتي يصاحبها نكوص أحيانا، ونرى أن الشاعر يعود مرة أخرى إلى ثيمته فيقول:
" أيها القبر المتأرجح بأنفاسي
أنت أعمق من رئتي"
التأرجح يصطحب التسلق فيه عودة إلى مفهوم القبر عند الشاعر، الفكرة التي تقلقه وتؤرقه ويبدأ بمحاولات مخياله، فالعلاقة بين القبر والرئة، هي علاقة تناقض الرئة مصدر أساسي للحياة بينما القبر المثوى الأخير للإنسان.
وفي قصيدته (تقاسيم الظل الموحش) يمضي بطرح رموز تحتضن معاناة كثيرة وكبيرة "الكرسي الذي سلخ نفسه تابوتا" عادة الكرسي رمز " السلطة" وكثير ما يكون سببا في موت صاحبه سواء كان ظالما أم مظلوما، جعله الشاعر يصرخ " لا بئر في عيني..." أي لا دموع، لكنه من جهة أخرى يرى " القمر عملة نقدية مفقودة المنشأ..." أي غياب الرؤيا لديه، " والظلام مدفأته" والمتحف الذي يعني التاريخ هو(خارج جسده جثة) وفي نهاية القصيدة، يبارك للقبطان الذي كتب في نهاية تابوته:
" سيعود إلى منبعه
في صيد الخرافات التي رسبت في أو مزنة..."
في قصيدته "حين يكون الياء شعورا" وهي غزلية تذوب عذوبة وفيها جمالية رائعة ... لكنه لم يتركنا دون ذكر للموت فيقول:
" أنا سيد الموت ...
لي رغبة أن أحشر نفسي شهيقا
لأتكدس ثغرة حب
وبعدها أسلم جسدي مهاترا
طيش عزرائيل"
وتتكرر الحالة ذاتها، في قصيدة رسالة إلى صديقه، تحمل من سوداوية مفرطة، وتشاؤما قويا وكبيرا، ليؤكد على عنوان موضوعنا فيقول:
" طنين كاذب
وأنا وأنت مجرد نقوش
تعبر علينا طعنات الجوع
ونشرب الموت في رقعة سماء مرتبكة..."
وكنت أفضل أن يكتب هذا المقطع بمقطعين لا بأربعة لأنه لا توجد ضرورة شعرية لاسيما وأن قصيدته تنتمي إلى قصيدة النثر.وقد ينطبق هذا الرأي على الكثير من مقاطع القصائد النثرية في هذه المجموعة.
ولم أجد سوى مقطع واحد في قصيدته الميترو (Metro) يشير فيها إلى ثيمة الموت:
" كلنا بضائع منهكة
الموت فينا أغنية مصفرة ..."
ولم يأتِ شيء عن هذا الموضوع في سيميائية 1 (أنثى مدججة بالسنا) بينما وردت إشارة واحدة عن الموت في سيميائية2 (على ساحل شعرها الشرقي):
"الاختباء في نهرك انتصار على الموت ..." إن التوظيف هنا يختلف عن قصائده الأخرى، حيث روحية التحدي وغياب الخوف والاستسلام له وبعيدا عن التشاؤم وما يسببه من ألم وصراع مع النفس.
في قصيدة المقهى، كانت أجواؤها مشبعة بلعب الدومينو، والضحك ووردت كلمة واحدة تشير لموضوعنا: (أترمل) في غير محلها، بل جزء من اللعب، لا يمكن أن تكون اعتباطية، لكنها شيء من المكبوت في أعماقه، وما يؤكد هذا المعنى، ما ورد في نهاية القصيدة:
" كنت حريصا جدا
على نسيانك
فخسرت ذاكرتي المعتوهة..."
أنمار مردان شاعر تجريبي تعد تجربته هذه تجاوزا كبيرا قياسا مع بداياته، وهي صفة تحسب له وتجعله أكثر براعة في قابل الزمان.

عرض مقالات: