بداية لابد من القول إن الدخول إلى (سائرون) باب صحيح في المرحلة الراهنة، وخطوة جريئة تطلبها الظرف الراهن وسيكون لها - ان سارت في الطريق السليم - أثرها على مجمل الحركات اليسارية في المنطقة، وستكون بوابة لانطلاقة جديدة تسهم في إعادة الحركة اليسارية إلى واجهة الاحداث، ويكون لها أثرها في التحولات الجديدة لبناء المجتمع وفق الرؤى التي تؤمن بها وتعمل من أجلها، إن لم يكن قريبا فعلى المدى المنظور.

ولقد كثر الحديث عن تحالفات الحزب الشيوعي العراقي، وتعددت الآراء بين من أسماها بالكارثة،  وبين من بررها وأعتبرها سائرة في الطريق الصحيح،  وقد أصدر الحزب تقيمه لهذه التحالفات في مؤتمره الرابع الذي صدر في ظل وجود العديد من الأطراف الفاعلة في إقامة التحالف وخروج آخرين كانوا وراء الكثير من أخفاقات تلك المرحلة،  لذلك جاء وسطيا حاول التبرير،  دون أن يضع الأصبع على الجرح،  ويشخص الخلل الكامن وراء مثل هذه التحالفات،  فهو من شخص ان البعث لا يزال ينتهج ذات السياسات المتذبذبة وعدم أيمانه بالعمل الجبهوي كأساس لبناء الدولة باعتباره قضية تكتيكية فرضتها مرحلة معينة، إضافة الى عدم أيمانه بالديمقراطية فكرا وسلوكا وهو ما ظهر واضحا في ميثاق الجبهة الذي شخصه الحزب في اجتماع لجنته المركزية في أواسط ت1/1968" أن الحكم الذي يقترحه البعث للبلاد هو في الواقع حكم لا ديمقراطي وفي الجوهر حكم يقوم على الاستئثار والتسلط...وأن الأمر سيقتصر على التخفيف من وطأة وشراسة النظام الدكتاتوري السابق مع الاحتفاظ بجوهره وهيكلية مؤسساته القائمة على تجاهل أرادة الشعب".

 أن المعرفة بالطبيعة المسبقة للنظام تجعل من المفيد أن يكون الطرف الآخر حذرا في تعامله معه،  لما يمتلك من تجارب سابقة عن طبيعة التحالفات، وما يعرف أساسا من ماضي الحزب،  وعداء مستحكم مر بفترات من الصراع استعملت فيه مختلف الأسلحة، وما سلكه من طرق خبيثة، وبالتالي كان على الحزب الشيوعي التفكير بنتائج هذا التحالف قبل قيامه، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهته وتفادي خطر الانهيار، وعدم السير بعيدا في التحالف وعلنية التنظيم ما جعل القضاء عليه أمرا سهلا، وكان الأولى الإبقاء على التنظيمات السرية التي لا تظهر إلى  الواجهة، وعدم زج الكوادر والقواعد في الفعاليات الجماهيرية، التي ساعدت السلطة على البقاء وترسيخ  وجودها،  وسهل لها القضاء عليه عندما  آن الأوان،  وكان على القيادة آنذاك التفكير الجاد بإيجاد التنظيمات السرية البعيدة عن الواجهة العلنية للحزب وادخارها للمرحلة القادمة وتفادي الكثير من الخسائر غير المبررة التي قدمها الحزب، وتحسبا للظروف والتطورات المحتملة، لا أن يكون هم القيادة أيجاد الملاذ الآمن للكوادر القيادية والعناصر المقربة منها وترك الآخرين لمواجهة مصيرهم المجهول، وكان الأولى استعمال سياسة التراجع المنظم المحسوب، بدلا من البلبلة التي أنهت الكثير من مرتكزات الحزب، ومحاسبة القيادة التي أدت إلى  هذه الكوارث، وانبثاق قيادة جديدة مؤهلة لقيادة العمل السياسي بعقلية جديدة تأخذ بالحسبان طبيعة القيادة السابقة واجتهاداتها الخاطئة التي أدت إلى هذه النهاية المأساوية،  وبالمقابل علينا الإشارة هنا أن الحزب استفاد في تلك الفترة من نشاطه العلني بزج دماء جديدة في النضال، عادت اليوم لتأخذ مكانها الطبيعي في العمل الحزبي، ولولا تلك الفترة لما ظل وجود للقواعد الحزبية هذه الأيام، من الذين أخذوا مكانهم بعد سقوط النظام وزاولوا نشاطهم في صفوف الحزب من جديد.

  لقد شخص الحزب في البداية طبيعة السلطة البرجوازية وانتقد ممارساتها وأن "الصراع محتدم بين تيارين في الحركة الوطنية تيار الطبقة العاملة وحلفائها بقيادة الحزب الشيوعي وتيار البرجوازية الصغيرة بقيادة حزب البعث "الذي" هو في الجوهر الوقوف بوجه الاشتراكية وضد تحقيق الديمقراطية "ما يعني أن الحزب كان على معرفة كاملة بطبيعة البعث ونواياه المستقبلية في الاستئثار بالسلطة وإقامة الدكتاتورية وأنه يسير بطريق معاد للاشتراكية فكيف لقيادة الطبقة العاملة تسليم قيادة هذه الطبقة ومنظماتها المهنية لقيادة البرجوازية الوطنية والتخلي عن هذه القيادة إذا كانت جادة في النضال من أجل تحقيق مصالحها الطبقية.

 وأشار التقييم إلى  أن الحزب أجبر السلطة على الكثير من الإجراءات،  كإطلاق سراح السجناء وخفض المطاردة البوليسية، وإعادة المفصولين منهم، "وأستطاع أن يوزع نشراته علنا" فهل أن أبعاد العسكريين إلى  وظائف مدنية يؤشر أن التحالف يسير في طريقه الصحيح،  في الوقت الذي زج البعث بعناصره لأشغال جميع المفاصل العسكرية،  وهل إن الغرض من الجبهة علنية النشر،  وأن يتركز النضال من أجل علنية مكبلة بالكثير من القيود،  ودون قدرة على التأثير في اتخاذ القرار أو المشاركة به،  وهل أن عدم التكافؤ هو المرحلة الأخيرة في مسيرة النضال، "ليجري ذلك كله في أطار سياسة البعث الحاكم المعادية للشيوعية والديمقراطية " فكيف يكون التحالف مع العدو وتسليم قيادات الحزب له ليتولى توجيهه الى الوجهة التي يريد، رغم معلومات الحزب بأن القواعد الحزبية رافضة لمثل هذا التحالف مفضلة أي شيء آخر على أن تكون أداة للبعث في ترسيخ سلطته وتقويتها. 

 ويشير التقييم إلى أن بيان الحادي عشر من آذار هو بالأساس شعار حزبنا، متناسيا أن القيادات الكردية ذاتها كانت سياستها معادية لحزبنا،  وأن اتفاقها مع السلطة دفعها لانتهاج سياسة معادية لحزبنا حتى أنها طالبت بتهميشه وإقصائه عن أي أتفاق سياسي، لطبيعتها البرجوازية القلقة، وأن النظام البعثي كان يخطط لدق إسفين بين الحركة الكردية والحزب الشيوعي، وقد انساق له بعض قادة الكرد واتخذوا مواقف متشنجة من الحزب، وأنه عقد اتفاقا تكتيكيا غرضه تمرير مرحلة لم يكن يستند فيها لأرضية صلبة، وأنه بتكتيكاته هذه تمكن من تثبيت أقدامه جيدا،  واستعمل سياسة التفريق بين القوى المعادية له، وجرها إلى  صراعات دامية في ما بينها،  ليقضي عليها الواحدة تلو الأخرى،  لافتقار هذه القيادات إلى  النظرة السليمة،  وتقدير عواقب الأمور، واندفاعاتها لتحقيق مصالح آنية لا تصب في المصلحة الوطنية على المدى البعيد،  وارتباطاتها الخارجية التي جعلتها أسيرة المصالح العليا لتلك الأطراف كما حدث عندما التجأ صدام إلى  الاتفاق مع نظام الشاه العميل مقابل تنازلات مذلة،  ليتسنى له القضاء على الحركة الكردية،  وكان في تحالف مع الحزب الشيوعي الذي لم يحرك ساكنا حفاظا على استمرارية الجبهة وديمومتها، ولكن البعث الذي لا يؤمن بالعهود والمواثيق، ويسير على أقذر ما في السياسة الميكافيلية من توجهات،  عاد لتصفية حلفائه، وهذا نتيجة سياسة فرق تسد التي أبدع النظام البعثي في تطبيقها طيلة حكمه العراق.

 وقد أشار التقييم إلى أن المؤتمر الثاني 1970 أعلن تمسك الحزب "برفض أي شرط من شأنه فرض القيادة السياسية لأي حزب على سائر الأحزاب، وتمسكه بمبدأ التكافؤ بين جميع الأطراف المتحالفة في الجبهة "فهل أخذ هذا التمسك طريقه إلى موقع التنفيذ عندما أقر للبعث بقيادة العملية السياسية، وأن يكون وجود الأحزاب الأخرى ديكورا لتجميل صورة النظام.

 وقد فات التقييم الإشارة إلى الصورة الحقيقية للبعث وطريقته في عقد التحالفات، التي أستثمر فيها شعاره الثابت "الغاية تبرر الوسيلة"، وطبقه بكفاءة منقطعة النظير، فكان اتفاقه مع قيادات كردية طريقا لتصفية الكوادر الشيوعية ذات المواقف الرافضة للتحالف أو التي أبدت نشاطا ملحوظا في المجال السياسي، بما يؤثر على مواقفه الداخلية، وكان لعدد من تلك القيادات أهدافها البعيدة التي تلتقي مع توجهات البعث في تصفية الحزب الشيوعي وإنهاء ركائزه باعتبارها الواجهة الوحيدة لتمثيل الشعب الكردي.

لقد أقر الحزب الشيوعي قيادة البعث للسلطة السياسية فيث الدولة،  واحتلال موقع مميز في قيادتها،  وبدأ البعث بتثقيف أعضائه بصيغة الحزب القائد، وأصدر عام 1974 قانوناً يكرس ذلك رسميا،  وأخطأ الحزب باعتبار انقلاب تموز ثورة تعد مقدمات الانتقال للاشتراكية، إذاً ما هو دور الحزب في جبهة من هذا النوع،  أليس هو دورا هامشيا تمكن البعث من خلاله بسط نفوذه وأحكام سيطرته،  وحاز على مكانة عالية بين حركات التحرر، وعلاقات متطورة مع الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، في الوقت الذي أخذ دور الحزب بالانكماش جماهيريا بفعل الأعمال والممارسات البغيضة للحزب الحليف،  في أجبار المواطنين على الانتماء للبعث،  أو منع العسكريين المجندين من ممارسة النشاط السياسي، ومنع بيع صحف الحزب إلا بإجازة من السلطة، وفرض الرقابة على ما تنشره الجريدة إلى غير ذلك من الممارسات،  فيما يشرف الحزب من علٍ على هذا التردي،  دون أن يتخذ الأجراء المناسب لإيقافه أو تلافي أخطاره المستقبلية،  ثم أعتبر البعث تقرير مؤتمره الثامن قانون ملزم التطبيق للدولة والمجتمع،  دون أن يحرك الحزب ساكنا أو برفض ولو بشكل بسيط هذا الأمر،  وفضل البقاء على المواجهة ممهدا الطريق للتمادي أكثر في الأيام القادمة،  ما يعني إن قيادته عاجزة عن اتخاذ أي إجراء لتغيير الواقع، ودون أن تفكر في المستقبل وإيجاد طرق الخلاص مما سيصل إليه التداعي في قادم الأيام،  ما يعني إنها قيادة لم تكن بمستوى المرحلة،  وغير قادرة على قراءة الواقع ناهيك عن تغييره.

  وأخذ حزب البعث تدريجيا يسحب البساط من تحت أقدام الشيوعيين، من خلال سيطرته التامة على جميع المنظمات الجماهيرية والمهنية،  وفرض وجوده على الأرض بقوة فيما كانت القيادة تعقد اجتماعاتها الروتينية لدراسة الأوضاع دون أن تستطيع رسم ملامح سياستها المقبلة لابتلائها بعناصر يمينية أثرت على قراراتها،  ووجود أياد خفية للسلطة تعبث بمقدراتها،  فقد كان الحزب في تلك الفترة مخترقا،  وقد كشفت البراقع عنهم بعد انفراط عقد الجبهة،  وحدوث الكارثة، رغم أن هذه العناصر كانت مكشوفة ومعروفة على مستوى الجماهير،  ولكن إغلاق الأذن عن سماع رأي القاعدة،  واقتصار القرار على القيادة العليا،  اثر بشكل كبير على تلمس طريق الخروج، وكان الواجب أتباع سياسة التراجع المنظم منذ 1974،  وتهيئة العناصر القادرة على حمل راية النضال من جديد،  وتهيئة الأرضية اللازمة لإنشاء التنظيمات التي يمكن أن تأخذ دورها في العمل السري،  ولكن هناك كما هو واضح خللاً في القيادة.