اطلعتُ بشغف عالٍ على إصدار د. محمد الربيعي "التعليم العالي والبحث العلمي، قضايا وتحديات وحلول" الصادر من دار لندن للطباعة والنشر، وبعد أن أكملت قراءة الكتاب وجدتُ نفسي ملزماً بالكتابة عنه لما يحويه من ابداع ورؤية علمية لواقع التعليم العالي في العراق، وما أتمناه أن يجد له صدى في توجهات وزارة التعليم العالي لما فيه من تشخيص دقيق لمعظم الإشكاليات في قطاع التعليم مقرونة بالحلول الموضوعية الممكنة. يحتوي الكتاب على (41) فصلاً ، مكرسة إلى إصلاح التعليم العالي، ومتناغمة مع مواضيع أُخرى تصب بذات الإتجاه. في تقديري الاسترشاد بالثروة العلمية التي تضمنها الكتاب وإعتباره دليلاً حيوياً لوزارة التعليم العالي بإتخاذه من الوسائل المهمة التي ستسهم في رفع جودة التعليم العالي وتجاوز الإشكاليات التي يعاني منها هذا القطاع. وبالتالي سيكون دافعاً قوياً لإنعاش البيئة العلمية والثقافية وتطوير البنية التحتية للمؤسسات التعليمية الحكومية والأهلية.
المجتمعات الحديثة بحاجة ماسة إلى وسائل معرفية متنوعة وفاعلة، لخوض غمار التقدم والتطور والتحدي في كل مجالات الحياة العلمية والثقافية والإجتماعية. وأداة الحل الحقيقي بيد قطاع التعليم العالي باعتباره الأساس لرقي المجتمعات الحديثة إذا تم تفعيله برؤية متناغمة مع التطورات العصرية المعولمة التي عمادها الجودة العالية في كل مفاصل التعليم التي تتوافق مع مسارات وضوابط وأنظمة التعليم العالي العالمية.
مبادرة د. محمد الربيعي، ذو العقلية المتنورة والقامة الكبيرة في المجالات العلمية الذي جرى تكريمه حديثاً في قاعة كلية الأطباء الملكية الايرلندية بتاريخ 07/03/2023، بمنحه دكتوراه فخرية (honorary doctorate) مقرونة بشهادة (DSc) من قبل الجامعة الوطنية الايرلندية (National University of Ireland)، تكريما لإنجازاته العلمية وخدماته للمجتمع العلمي العالمي. وبخبرته الواسعة في الجامعات العالمية تمكن وضع اصبعه على الجرح العراقي الكامن في إشكاليات التعليم العالي في العراق، التي هي إشكاليات المجتمع العراقي التي عايشها عن قرب أثناء فترة تواجده في العراق ودراسته الميدانية لواقع الجامعات العراقية ومعاناتها من قضايا وتحديات كثيرة أبرزها عدم الإلتزام بمعايير الجودة. وبذلك انصب تفكيره وحرصه الشديد على كيفية نقل الخبرة والأفكار المتطورة إلى الميدان الأكاديمي العراقي.
قدم د. الربيعي لمحة تاريخية عن مراحل تطور التعليم العالي في العراق منذُ عشرينيات القرن الماضي وصولاً إلى الوضع الحالي، مشيراً إلى مراحل تطوره في كل مناطق العراق بما فيها اقليم كردستان، موضحاً شروط تأسيس المؤسسات العلمية بشقيها الحكومي والأهلي، ومدى الإلتزام بالضوابط ومعايير الجودة. وسلط الضوء على الثروة الحقيقة في العراق التي قوامها "الإنسان" وتأهيله لكي يأخذ دوره في عملية البناء والتطوير من خلال الخبرات المكتسبة والمشاركة في البرامج وانشطة الدورات التدريبية التي تضمن الأداء المتميز للأُستاذ في مجال تخصصه، باعتباره الركن الإساسي الذي تقوم عليه العملية التعليمية بشقيها التعلم والتعليم، بما يفيد الطلاب باتباع اساليب تصب في ترسيخ ثقافة التغيير الإيجابي داخل المؤسسة التعليمية لكي ترتقي لمستويات الجامعات العالمية.
وأكد على مدى أهمية المناهج الدراسية العلمية في مواجهة التحديات، وأعطى حيزاً كبيراً لأهمية البحث العلمي الرصين من منطلق الحفاظ على سمعة ومستوى الجامعات العراقية، ومن دافع الحرص على مجالات التقدم العلمي والتقني في العراق، باتباع أنظمة مهنية للنشر والمراقبة للمجلات العلمية والأكاديمية المحلية المتخصصة لنشر البحوث، منتقداً إصدارالعدد الهائل للمجلات الذي وصل إلى (245) مجلة، باعتبار أن اصدار المجلات البحثية ليس من اختصاص الكليات ولا الجامعات، وبهذه الحالة فهي تسهم في نشر الفساد العلمي وتحرف الاهتمام بالنشر في المجلات العلمية العالمية الرصينة وتزيد من تشتت جهود الباحثين لصعوبة الاطلاع على أعمالهم.
ودعا إلى ضرورة استخدام التقنيات العصرية لإحياء المعرفة من خلال الإهتمام بالقراءة الذاتية من مصادر متنوعة. والإهتمام بحقل الترجمة من اللغات الأُخرى وتوسيع آفاقه بما يخدم مجالات البحث العلمي بعيداً عن أساليب الخداع والسرقة الفكرية. وأشار إلى أهمية تعلم اللغة الإنكليزية لما لها من أهمية جوهرية في مسألة التواصل مع الثقافات العالمية وتحسين التعاون وتعزيز العلاقات مع المحيط المعولم في المجالات التربوية والعلمية والتكنولوجية.
شخص د. الربيعي معظم العلل التي يعاني منها قطاع التعليم في العراق، والتشخيص نصف العلاج، واقترح الكثير من الحلول والمعالجات الموضوعية الممكنة والمتاحة لتحسين نوعية التعليم والرقي به، إذا توفرت الإرادة السياسية النزيهة في تجاوز المعوقات التي أصبحت من الأمور المتداولة في حياتنا اليومية، ليس فقط في مجال التعليم العالي وإنما في كل المؤسسات التعليمية. تضمن الكتاب معالجات للإشكاليات المتعددة، أبرزها التي تتعلق بمدى الإستقرار السياسي، وفاعلية الإدارة التعليمية في صياغة المسارات الصحيحة للعملية التعليمية ورسم الآفاق المستقبلية.
وتحدث عن أهمية الحريات الأكاديمية ومقوماتها الأساسية، في التطبيق العملي، لحرية التفكير التحليلي – النقدي للكادر التدريسي، والمسؤولية الأخلاقية الملقاة على الجامعات وعقولها المتخصصة في مجال تطوير المؤسسات التعليمية في عصر الثورة المعلوماتية. وأهمية الحقوق الأساسية للطلبة والتدريسين في ظل بروز الدول الديمقراطية التي تفسح المجال لنشر الأفكار والحريات الأكاديمية التي تصب في فائدة المجتمع وقطاعاته المختلفة.
عالج د. الربيعي بعض الآفات الإجتماعية كالتطرف الديني والعنف والفقر والجهل والهجرة والبطالة التي يعاني منها شباب المجتمع العراقي والمجتمعات العربية. مؤكداً بأن إدارة المؤسسات التعليمية باسلوب علمي مدروس حسب حاجة سوق العمل سيكون له الدور الأفضل في برمجة الخطط الكفيلة بتحقيق التوازن المجتمعي وتنمية الموارد البشرية بما ينسجم والتوجه الصحيح للجامعات التي تشكل أهم أدوات التطوير والتحديث في المجتمع، باعتمادها على معايير الجودة، وبمدى الاستفادة من التجارب الحية لبعض البلدان على الصعيد الإقليمي والدولي.
حدد د. الربيعي مجموعة من الضوابط لإصلاح التعليم الأهلي في العراق وكيفية إنقاذه من الحالة المتأزمة التي يمر بها اليوم، من خلال الإجراءات والبرامج التي اقترحها لتجاوز مخاطر تدهور قيمة الشهادات الممنوحة من هذه المؤسسات التعليمية. في الحقيقة هذه المقترحات هي بمثابة دليل عمل، وعلى المؤسسات المعنية أن تأخذ به كأساس لعملية الإصلاح لهذا القطاع الحيوي من التعليم العالي، مقرون بخطوات عملية لتنظيم مسار التعليم العالي الأهلي بحيث يتواءم مع توجهات التعليم العالي الحكومي.
من خلال الإطلاع على نوعية المقالات المنشورة في هذا الكتاب وما ينشره د. محمد الربيعي من مقالات متواصلة على صفحات التواصل الإجتماعي ندرك مدى حرصه على تطوير مؤسسات التعليم في العراق. ومن يعرفه عن قرب يدرك مساحة الحلم الذي يراوده، فيما لو اتيحت له إدارة هذا القطاع الهام الذي يشكل عصب الحياة، بأن يرى في العراق مجتمعاً ديمقراطياً تسوده العدالة الطبيعية ويتصف بالعقلانية والتنوع والإختلاف والمساواة على اساس المواطنة وتحكمه جدلية الحرية والقانون.
هذه الأحلام ستجد لها واقعاً حقيقياً ملموساً في يوم من الأيام، عندما تتوفر النوايا الحسنة والبيئة المؤمنة بنهضة العراق وتطوره، ستجد هناك برنامجاً متكاملاً راقياً، يجسد مسيرة التغيير والتطوير الأكاديمي والإداري، لتجاوز المعوقات والتحديات التي يعاني منها مجتمعنا العراقي، وسوف يجعل جامعاتنا العراقية مميزة باستقلالية عالية ومرتبطة إرتباطاً وثيقاً بمتطلبات المجتمع، وفي مستويات رفيعة الجودة، وستكون في مقدمة التصنيفات العالمية في مجالات البحث العلمي.
أكاديمي عراقي مقيم في لندن*