اقف عاجزا عن إستذكار شهامة شهيد إضراب الزيوت العامل جبار لفتة وتضحياته.
قبل بضعة أيام غادرنا العامل النقابي الشجاع، شنيشل عبد الله ( أبو ماجد)، احد ابطال اضراب عمال الزيوت ( ٥ تشرين الثاني ١٩٦٨ ) وقد حال المرض دون ان أنعيه كما يستحق، فهو الكادح الباسل الهمام.
أقل واجب يمكن ان أقوم به التذكير بموقف الفقيد وبطولته الفذة في الاضراب، اذ سجل النقابي الحقيقي ( أبو ماجد) موقفا بطوليا مشرفا بشموخه المعروف، وبعزة أهلنا بالجنوب بوجه ماكنة البعث الفاشي. وحين استذكر دوره هي فرصة كذلك، كي اقوم بتأدية واجبي امام كل رفاقي في الاضراب، فالذاكرة ومهما غطاها غبار الزمن لا تنسى كلا من الاحبة الشهيد البطل جبار لفته و عبد جاسم وغضبان احمد وشنيشل عبد االله وفاضل حبيب وشاكر حليوه وهاشم حسن وحسين كاطع وكرم مشجل ومجيد مؤمن وعلي عبود وحسين جخيتر ومحمد عبد وهاشم عدي وخلف محمد و كريم مغيزل و أبو تحسين.
حاولت أقلام الطاغية المقبور، وابواق مرتزقته مسح هذا الاضراب البطولي من الذاكرة الوطنية، لكنها فشلت حيث لم ولن تتمكن أي سلطة مهما بلغت امكانياتها الدعائية، و اعداد مرتزقتها ان تمحو مجدا دافعنا فيه عن حقوق ١٢٠٠ عامل هو عدد عمال شركة الزيوت النباتية، حيث تم الالتفاف على حقهم بالأرباح التي تراكمت دون ان تصرف، الى جانب حقوق عمالية وحياتية أساسية.
يبدو ان تاريخ الارتزاق الدنيء لم يتوقف مع رحيل الدكتاتورية واندحار أجهزتها القمعية، ففي كل فترة يطل علينا مفتر، ينكر علينا تاريخ كفاحنا المشرف بوجه الطغيان الذي جثم على صدر ألعراق.
نحن الذين اخترنا الكفاح ضد الظلم والقهر والاستبداد، منطلقين من قناعة بحق الانسان بالعيش الكريم في وطن يحترم مواطنيه و يؤمن لهم سبل الحياة، ونظام يحقق العدالة الاجتماعية، و لم يخطر في بالنا حينما وقفنا بوجه الطغاة وخضنا الكفاح النقابي والمطلبي والسياسي ان نسجل بطولات فردية، بل ان قناعتنا كانت ولازالت تؤمن بالعمل الجماعي والكفاح المنظم ضمن فريق عمل، فالهدف الذي نبتغيه هو التغيير من اجل الغد الأفضل للشعب، ولا ننطلق في ذلك لغايات فردية وقضايا شخصية.
وأذ أعد ساعات ايامي لعملية جراحية قادمة، في سباق محموم مع مرض لا يقل خباثة عن كل من يحاول انكار كفاحنا، بانتظار مقص الطبيب كي يقتطع قطعة اخرى من احشاء جسدي، كما قطع رصاص العدوان يوم ٥ تشرين الثاني ١٩٦٨ في باحة شركة الزيوت، حبل الحياة عن العامل النقابي جبار لفتة ليتوج شهيدا. هذا العامل البطل احد قادة الاضراب، وكما هي دناءة المفترين ، فقد كذب جلاوزة البعث ولفقوا تهمة قتل العامل بالعامل النقابي المقدام عبد حاسم ابرز قادة الاضراب وسيروه كجان. لا يمكن ان انسى ألم العمال المضاعف على رفيقهم عبد جاسم الذي تحمل بصبر وشجاعة هذا الافتراء، فوق اوجاعهم على فقدان رفيقهم جبار لفته الذي تضرج بالدم شهيدا امام اعينهم برصاص العدو.
لم يحول ألم الفقدان، والتهمة الكاذبة دون ان اتحرك، فكان لي حركة طالما يذكرها احبتي العمال ويطيب للصديق عبد جاسم روايتها، عندما زرته في مركز شرطة المسبح بالرغم من الملاحقة و الاختفاء ، وحملت منه رسالة الى رئيس اتحاد نقابات العمال العالمي، وسلمتها لقيادة الحزب اللذين بدورهم اوصلوها الى الرفيق إبراهيم زكريا السكرتير العام لإتحاد النقابات العالمي، اثناء زيارته الى بغداد والذي رفض مغادرة العراق دون اطلاق سراح العزيز عبد جاسم.
أن أي محاولة لتشويه تاريخ الاضراب والنيل من قادته، وانكار دور أي مشارك فيه، هو مواصلة للفعل المشين ذاته، الذي نفذه العامل المرتزق "مبدر سطام" بإطلاق النار على العمال المضربين عند الباب الرئيسي للشركة.
وإذ لا يتسع المجال كي أمر على تفاصيل التحضير للإضراب، الذي اعتبر أهم الإضرابات العمالية، حيث تكمن أهميته من كونه وقع في أكبر المعامل المملوكة للدولة، والذي امتد بحدود ثلاثة اشهر قبل تنفيذه. اما يوم اعلان الاضراب ويوميات تداعياته، والقمع المخزي الذي نفذه "فهد جواد الميرة" أمر معسكر الرشيد وتنفيذه حملة البطش والاعتقالات، ودور المداهن "صلاح عمر العلي" في كسر الاضراب، ومرتزقة السلطة التي حشدت قواتها، وانهمار الرصاص، وقبل ذلك تشكيل لجان الاضراب وتقسيم الأدوار بين تكليفي بغلق أبواب الشركة، ثم لاحقا قيام البطل حسين جخير بلحيمها. هذه الوقائع وغيرها التي تحتفظ ذاكرتي بتفاصيل بعضها، خاصة الأساسية منها وتلك المتعلقة بدوري بالاضراب الذي هو أول واهم معركة سياسية أخوضها وانا في اول أعوام شبابي وباكورة نشاطي النقابي؟ اعد احبتي بالرجوع اليها، ان عبرت من هذه المحنة الصحية الحالية، وساعدتني صحتي. وأحيل لمن يرد التعرف على تفاصيل الاضراب، ودور كل منا فيه الى ثلاثة مصادر
- الحركة الوطنية وأضراب عمال الزيوت النباتية ، للدكتور عبد جاسم صدر في بغداد، ٢٠٠٨.
- بحث عملي تحت عنوان ( أضراب عمال شركة الزيوت في بغداد) للدكتورة اميرة حسين محمود الكريمي، نشر في مجلة كلية الاداب بن رشد العد د٩٩. جامعة بغداد.
- بحث علمي تحت عنوان ( الحركة العمالية في العراق، أفاقها وسياسات البرجوازية اتجاهها) للباحث، جلال محمد، السليمانية، عام ١٩٩٩
ومع ان هذه المصادر العلمية دونت الوجهة الأساسية من الاضراب ومرت على تفاصيل كثيرة، لكن ما اود التطرق اليه هنا هو المغزى السياسي من الإضراب، الذي لا يقل أهمية عن المغزى النقابي والمطالب النقابية، كحصة العمال من قانون توزيع الأرباح ومطالب أخرى كالضمانات صحية والتغذية. حيث لم تغب السياسة عن بالنا ونحن نخطط للأضراب، فذاكرتنا طرية وتتذكر جرائم الانقلاب الأسود في شباط ١٩٦٣، وحكاية القطار الأمريكي الذي أوصل الانقلابيين الى القصر الجمهوري لحكم العراق بعد مجازرهم الشنيعة. اذ رأينا من الواجب فضح ادعاءات حزب الانقلابات والدم، وزيف دفاعهم عن الطبقات الكادحة وحماية العمال والفلاحين، فكان احد اهم الابعاد السياسية للاضراب، هو وضعهم امام كذب ادعاءاتهم وكشف ما يخفون من مخططات خبيثة، كشفت لا حقا ولحقت اكبر الضرر بالطبقة العاملة العراقية بعد ان قرر "مجلس قيادة الثورة" تحويل العمال إلى موظفين حسب القرار المرقم ١٥٠ لعا م ١٩٨٧، ما سبب اضرارا على العامل العراقي على مدار سنوات طويلة.
لم يكن اشتراكنا في الاضراب كفورة شباب، او تعبيرا عن لحظة غضب استثنائية، انما هو وقفة شجاعة بوجه أعتى دكتاتورية مستبده، بعد أشهر معدودة من وصولها للسلطة، هي صفعة للبعث في ذروة صعوده.
لقد مثل الاضراب الوعي الطبقي المتقدم للحركة العمالية و النقابية في العراق وقدرتها على التنظيم والإدارة والالتزام بقانون العمل.
تحية لكل من اسهم فيه، والمجد للشهيد العامل البطل جبار لفتة. والعار يلاحق القتلة.
والخزي لمن يتطاول على هذا التاريخ المجيد والمكافح.
ملاحظة أولى:
- التمس منكم العذر بشأن بعض الصياغات، اذ لم تكن لدي طاقة لمراجعتها، حرصت على الكتابة وان كانت على وجه السرعة، مع اني لم أغادر فراش المرض، ووجدت من الضرورة استذكار فقيدنا العامل النقابي (أبو ماجد) الذي غادرنا قبل أيام.
- أتمنى ان امتلك مثابرة الراحلين العزيزين الدكتور رحيم عجينة وصالح دكله حيث كتبا مذكراتهما في ايامهما الأخيرة على وجه السرعة، الأول وهو في صراعه مع المرض، والثاني في سباقه مع الموت. و لو قدر لي ان أعيش لكتبت تفاصيل سجن افين في ايران ي حيث اودعني حكم الملالي في سجن رهيب لا يمكن انسى قسوته، أي ذاكرة تنسى ستة سنوات وثلاثة اشهر وتعذيب وحشي، وكذلك شهادتي عن انتفاضة كردستان في ربيع عام ١٩٩١.
- الصوره المرفقة، تؤرخ للاجتماع الأخير للجنة الأضراب، قبيل التوجه الى المعمل لإعلان بدءٔ الأضراب، والشخصيات الموجودة بالصورة مع حفظ الالقاب، من اليمين غضبان أحمد فاضل الوائلي، حيدر شيخ علي وكرم المقدادي، وهم جزء من لجنة الأضراب.
* من صفحة الرفيق حيدر شيخ علي امس .. عن اضراب عمال الزيوت عام ١٩٦٨