بعد الفتح العربي للعراق ، ظل اليهود أقدم طائفة في البلاد ، تبنوا اللغة العربية واستخدموها في الكتب العبرية والطقوس الدينية .

ولما كان مركز الخلافة العثمانية بعيدا عن بغداد، لازم الاقليات والطوائف غير الاسلامية القلق وعدم الامان . وكان هذا عاملا مشجعا على هجرة اليهود .

في السياسة العثمانية يحق لغير المسلمين  تشكيل أو تنظيم مجالس تعنى بشؤونهم الدينية والاجتماعية وبادارة قادتهم الذين تمتعوا بسلطات قانونية واحترام كبيربين ابناء طائفتهم . وترك للطائفة العناية بشؤونهم مثل الزواج والطلاق والارث .. الخ  وهو ما كان يدعى نظام الملّة ( ملّت سيستم ).

 كان النظام الملّي عامل استقرارللامبراطورية العثمانية ويظهر المرونة العثمانية والادارة المتسامحة .

حوالي منتصف القرن الثامن عشر غامر الاتحاد الاسرائيلي العالمي Alliance Israelite Universelle

بتأسيس مدارس في معظم مدن الامبراطورية العثمانية ذات الكثافة السكانية اليهودية .

كان ظاهر الاتحاد الاسرائيلي العالمي ( الاليانس ) علمانيا ، ولكنه يحتفظ بشخصية دينية . تعليمات ونظام الاتحاد باللغة الفرنسية ، التوجيهات والدروس تقدم باللغة الفرنسية من قبل أساتذة أكفاء تعلموا وتدربوا في المدرسة الاسرائيلية الشرقية في باريس .

Ecole Normal Israelite Orientale in Paris

 هذا النشاط  الثقافي أنتج مجموعة مثقفة بغدادية يهودية من الرجال والنساء يجيدون اللغة الفرنسية والانجليزية ويحيطون بالثقافة الاوربية .

الاطلاع ومعرفة الثقافة الاوربية والاحتكاك بالرواد الاوربيين القليلين الذين رحلوا الى الشرق ، جعلهم  يحذرون مما يحيط بهم وعلى اطلاع على العالم الغربي ، فكان هذا عامل جذب قوي آخر للهجرة .

هجرة اليهود

هاجر يهود العراق الى الهند خلال القرن الثامن عشر وأسسوا مستعمرة في ميناء سورات   Surat تقع على بعد 165 ميلا شمال بومبي ، برئاسة شالوم عبادية كوهين ، الذي كان موظفا في المعامل البريطانية في ليفانت Levant.

 انتقل جوزيف سماحة - عراقي الاصل - من سورات الى بومبي وفي عام 1797 تعاون بعض التجار اليهود في حلب مع التجار اليهود في بغداد  والبصرة واليمن وانتقلوا الى كلكتا حيث أسسوا متاجر لهم ، ولكن  النقلة النوعية كانت بوصول داود ساسون من بغداد الى بومبي ليصبح لهم حضورمتميزفي بومبي .

المبادرة الهامة لنشاط أسرة داود ساسون وشركته كانت في التجارة ، استيراد وتصدير مع الخليج وفيما بعد عملوا في تجارة الافيون مع الصين . ثم تركوا هذه التجارة ومارسوا الاعمال المصرفية وصناعة القطن .

اوائل القرن الثامن عشر أصبح السير يعقوب ساسون مالك أكبر مجموعة معامل نسيج في بومبي ، فشغلوا الاف العمال في مصانعهم ومنهم من  يهود بغداد . 

رعى يعقوب ساسون مدرسة ثانوية في بغداد حيث يحصل الطلاب على معارف في الثقافة الانجليزية حتى مستوى دخول الجامعة ، وساهم في تأسيس المعهد الملكي للعلوم في بومبي .

كما أسست أسرة عزرا نواة تجارتهم في كلكتا ، وكذلك أسرة إلياس وأسرة كباي Gubbay  ، كما أسست بعض الاسر اليهودية مثل أسرة حسقيل البنك الشرقي في الخليج وشرق افريقيا والعراق . توفي مؤسس البنك يعقوب حسقيل في لندن 1939 .

حافظ العراقيون اليهود في الهند على عاداتهم وتقاليدهم والتزموا بالشعائر الدينية والاخلاص  ، وازيائهم ، ورعاية كبار السن منهم . افتخروا بالكرم والضيافة كما كانوا يفعلون في موطنهم الاصلي العراق .

وبمرور الزمن اكتسبت  بعض الاسر  البغدادية اليهودية التقاليد الانجليزية وغيروا أسماءهم العربية بحيث يسهل لفظها بالانجليزية . بينما ظلوا على شعائرهم الروحية وتعاليمهم التي كانوا عليها ببغداد يتبعون الحاخام الذي ببغداد ويأخذون منه النصح والارشاد والتعليمات الدينية .

شيئا فشيئا تحولوا من  التخاطب بالعربية الى الانجليزية المشوبة بالمسحة الهندية .

حصل اليهود الذين هاجروا الى الهند على فرص ممتازة في التجارة وازدهرت أعمالهم لان الهند كانت بلاد متسامحة ولم يعاني اليهود من التمييز ومعادات السامية .

كانت للعلاقات الجيدة التي نسجها البغداديون اليهود مع الادارة البريطانية من جهة ، ومع الهنود  الذين عاشوا بينهم من جهة ثانية ، أن ازدهرت  تجارتهم وأعمالهم فكانت عاملا كبيرا لهجرة المزيد من التجار من بغداد والبصرة الى بومبي و كلكتا حيث المستقبل أكثر اشراقا وازدهارا .

بنجامين اسرائيل مؤلف كتاب موجز تاريخ اليهود في الهند يقول عن التجار البغداديين الذين عاشوا في الهند ( انهم اصحاب الفضل في تطوير مدينتي كلكتا وبومبي ، أسرة ساسون في بومبي وأسرة عزرا في كلكتا ) وهو ما قامت به أسرة سموحة البغدادية التي هاجرت الى مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واشترت مناطق من الاراضي الضحلة في الاسكندرية ، فجففتها وشيدت فوقها مدينة جميلة سميت فلل سموحة  Smouha Villas.

السير بارتل فـرير Sir.  Bartle Frer   محافظ بومبي عام  1862م  الذي كان راغبا في الحصول على مساعدة الاغنياء البغداديين لتطوير التعليم والمؤسسات الصحية ، كتب عن البغداديين اليهود في بومبي ( انهم الاصرة الثمينة التي تربط بيننا وبين المواطنين الهنود، أنهم شرقيون ومحترمون وفي نفس الوقت هم مثل الانجليز في حياتهم وارتباطاتهم وهم مخلصون .

البغداديون اليهود في بريطانيا

مجموعة صغيرة من البغداديين اليهود استوطنت في بريطانيا في القرن الماضي - التاسع عشر - انتقلوا الى مانجستر، هناك تعيش جالية عربية كبيرة من الشرق الاوسط والبعض من المغرب الذين استوطنوا سابقا ليعملوا في صناعة شحن القطن ، انسجموا مع المهاجرين الجدد ، كما يهود حلب ودمشق وحتى يهود اسبانيا والبرتغال .

 الـبـغـداديـون اليـهـود فـي الـهـنـد   **   

 ظلت كلكتا عاصمة للهند لغاية عام 1912 وازدهرت فيها الصناعة والتجارة وتطورت حياة الجالية البغدادية فيها ، وكان أغلبهم من يهود بغداد وعدد قليل من حلب واليمن .

ازدهرت تجارة الجالية  البغدادية في الحرير والرز والسكر والشاي والجوت والقطن والافيون ، كانت تجارة الافيون يومذاك مباحة ولها سوق مزدهرة  في شرق آسيا . وكانت هذه التجارة تحت سيطرة يهود بومبي وكلكتا .

فيما بعد حرمت تجارة الافيون في اوائل القرن العشرين وقبيل ذلك تحولت أسـرة ساسون في بومبي الى تجارة المنسوجات وصناعتها ، أما يهود كلكتا فاشتغلوا بالمناصب الحكومية الرسمية  والبنوك .

عام 1881 م بلغ تعداد اليهود في كلكتا ( الف شخص ) ولذلك شيدوا كنيسا جديدا يتسع لمراسيم الجالية ، شيدته أسـرة ميرزا البغدادية بعمارة رائعة ويعد أكبر كنيس في الشرق .

من بين زوار كلكتا جاءعام 1897 م الحاخام البغدادي شليمو عبد توينا  Twena  وحدثت نقله صناعية في الهند أواخر القرن التاسع عشر فساهمت الجالية البغدادية اليهودية في كلكتا وبومبي في هذه  النهضة الصناعية ، فأسست أسرة داود ساسون وعبد الله البرت مصانع نسيج القطن في بومبي واستوردوا لها احدث الالات والمكائن من أوربا وكانوا يصدرون انتاج مصانعهم الى شنغهاي وبغداد وايران وانجلترا ، وفيما بعد تطورت صناعة القطن وازدهرت التجارة مع هونغ كونغ وغرب افريقيا والولايات المتحدة الامريكية .

أسـس السير يعقوب ساسون بنك الشرق المحدود Eastern Bank Limitd

في لندن وافتتح فروعا له في الهند ، سنغافورة ، وبغداد  وشيد عدة كنائس يهودية في شنغهاي وهونغ كونغ وبومبي . توفي في لندن دون أن يخلف أبناء فاستلم أخوه شؤون التجارة والمال .

بعد الحرب العالمية الثانية باع السير فكتور ساسون الشركات والمصانع التي في الهند ونقل أعماله الى شنغهاي وقبل ذلك كان أغلب أبناء الجالية تزوجوا خارج طائفتهم وتحولوا عن ديانتهم وذابوا في المجتمع  فانتهى عصر الجالية البغدادية اليهودية في بومبي .

رياح التغيير

الجالية البغدادية اليهودية في الهند من الظواهر الفريدة في تاريخ اليهود ، اذ لم يكن لغيرهم مثل هذه التجربة ، فهم لم يعانوا من معاداة السامية ، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية  واستقلال الهند بدأت رياح التغيير تهب على الوضع العام في الهند ، وبالرغم من اخلاص الجالية البغدادية اليهودية لوطنهم الثاني الهند ، انتابتهم مشاعر عدم الاطمئنان لمستقبلهم في الهند ، وعلى الاخص الشباب منهم وبمرور الوقت تبعثرت الجالية وانتشرت في بقاع العالم ، كندا ، امريكا ، انجلترا ، استراليا واسرائيل .

مجموعة قليلة  اختارت البقاء في الهند ، على الاغلب من كبار السن واصبح من  الصعب الاستمرار بادارة الكنائس والمدارس التي اصبح طلابها من غير اليهود .

اسدل الستار على تاريخ الجالية البغدادية في الهند ولكن أغلب الذين غادروا الهند الى البلدان الاخرى حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم البغدادية اينما رحلوا وحلوا.

   * ترجمة عن الانجليزية لمقال الدكتور حسقيل اسحاق  نشره في مجلة The Scribe  الكاتب

العدد 62 سبتمبر / 1994   بعنوان :

Migration of Iraqi Jews by Dr. Heskel Issacs

 ** ترجمة موجزة لمقال من مجلة

 The Scribe  العدد 62  سبتمبر 1994

The Baghdadi Jews of India part 2 by Rachel & Sareh Manasseh

عرض مقالات: