ستار خضير ، لم اعرفه باسمه الحقيقي الا بعد سنوات مديدة . كانت أمي الفلاحة الفراتية الشهمة ترحب به بفرح كبير وتسحبني، أنا اليافع حينها ، وابن الأربعة عشر عاما ، لتقدمه على طريقتها البسيطة والمحببة :
هذا عمك " ابو حسين " .
كان بستاننا المحاذي لشط الحلة تماما في " قرية البوشناوة " الواقعة منتصف الطريق الرابط بين مدينة الحلة وناحية القاسم، كانت تملك تاريخها النضالي الخاص.
ففي خمسينيات القرن المنصرم، وحتى ثورة تموز المجيدة عام ١٩٥٨ ، كان واحدا من الأوكار الأثيرة والأكثر صيانة لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد سلام عادل .
كان والدي الشهيد عباس خضير وعمي الشهيد كاظم الجاسم بمعيته ابدا . فقد كان البعض من مطابع الحزب تستقر هناك . وفِي البقعة تلك ولدت فكرة جريدة "'صوت الفرات " كمطبوع ناطق باسم منطقة الفرات الأوسط عام ١٩٥٤ .
ولذا ليس من العجب ان نرى وجوها، قد تمرق مسرعة او تقيم لأيام وأسابيع في ظلال بساتيننا ودارنا القديم وأوكاره.
لكن الحال تبدل كثيرا بعد انقلاب شباط الاسود عام ١٩٦٣ واستشهاد الوالد .
وعندما بدأ الحزب بمعافاة وضعه نسبيا ، بدأنا ثانية نصافح وجوها نضالية جديدة برفقة العم قبل استشهاده الفاجع في معتقل " قصر النهاية " سيئ الصيت عام ١٩٧٠ . وكان أبرزها وجه العم العزيز " ابو حسين " .
كنا نصحو بين الفينة والأخرى على لقاء مشترك بين العم وستار خضير. قد يدوم لساعات، وقد تكون البستان هي المأوى ليوم او يومين آخرين قبل ان ينصرفا وسط وداع حار لا تزال صورته تملأ الذاكرة حتى الآن .
كان الشهيد ستار خضير يملك قامة ممشوقة ووجه أليف يحمل شيئا من أسى دفين وبشاربين متوافقين تماما مع ملامح وجهه الذي تكسوه سمرة محببة. كان متواضعا بلا افتعال وخفيض الصوت في الغالب، ومستمع نادر لأحاديث الوالدة وهمومها بعد استشهاد زوجها على يد قطعان الحرس القومي في واحد من الصباحات المبكرة من آب عام ١٩٦٣.
وعندما أتأمل طيف وجهه بعد كل هذه السنين، أرى بوضوح ذلك الأمل والعزم والقدرة العجيبة على إشاعة جو من الإصرار والمقاومة، ولو بكلمات مقتضبة لا غير.
لم اكن اعلم ان "ابو حسين" هو الكادر الشيوعي الموهوب وعضو اللجنة المركزية للحزب " ستار خضير " الا بعد ان تقاطعت طرقنا تماما بعد أن ولجت دروب العمل السري نهائيا داخل الوطن في تموز عام ١٩٧٨ .
كانت صورته، ما تزال ، ماثلة امامي . وبدأت ملامحه السياسية والنضالية تتكشف لي رويدا، عبر سنوات اختفائي المريرة التي قاربت الـ ٢٢عاما .
بدأت أتلمس طريقه بحذر بعد ان عرفت سجايا شخصيته النادرة تماما .
لقد تحول الشهيد ، مع رفاقه الآخرين، الى أيقونة نضالية كنت في امس الحاجة لها خلال السنوات الصعبة تلك . كان ملهمي ومعلمي وسندي في المجابهة والإصرار في رفض نظام دموي لا يرحم .
و أتذكر حتى الآن مشهد وجوم الوالدة الراحلة وحزنها ودموعها الغزيرة وسط صمتها المطبق ، وقد ترسخ عميقا في ذاكرتي كيافع لا يزال ينتظره الكثير مستقبلا . وعند سؤالي عن سبب ما حل بها في تلك الظهيرة الحزيرانية من عام ١٩٦٩ ، لم يزد جوابها عن جملة او جملتين :
" لقد قتلوا عمك ابو حسين في بغداد "!
وهاهي الذكرى الخمسين لاستشهاد العم ستار خضير تطل علينا كوهج لا يخبو، وهاهم القتلة ذهبوا مشيعين بالعار الى مزبلة التاريخ .
لكن درس ستار خضير الأهم بالنسبة لي يتمثل في الاتي :
لقد غادر ولم تعرفه أمي الفلاحة صابئيا ابدا . عرفته وطنيا وشيوعيا وإنسانا بخصال اخلاقية نادرة . كانت تراهن عليه وعلى رفاقه بإمكانية بناء وطن يتسع للجميع . لم تلتفت ، هي الإنسانة البسيطة ، الى مذهبه او ديانته ابدا .
وعبر ذاك يمر الدرس الاهم:
لقد وحد الحزب الشيوعي العراقي ، وكمؤسسة جامعة ، اطياف الشعب العراقي جميعا، بتلاوينها الدينية والطائفية والقومية ، وحدهم تحت مظلة الوطنية الحقة ، وهي احوج ما نطلبه اليوم وسط سياسيات لا مسؤولة ستقود بلدنا الى الشرذمة والكراهية والبؤس ان لم نرفع جميعا الصوت والفعل الاجتماعي الخلاق.
ختاما اسمحوا لي أن أقول : سيبقى ستار خضير واحدا من أنبل وأشجع ما أنجبته الطائفة الصابئية في العراق، بل هو واحد من هداياها التي لا تقدر بثمن قربانا للوطنية العراقية الحقة.
الذكر الطيب والخلود للشهيد ابو حسين، ستار خضير الحيدر..
والعزاء ، كل العزاء ، لمحبيه وأهله ورفاقه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نص " الشهادة " التي ارسلتها لفعالية الاحتفاء بالذكرى الـ ٥٠ لاستشهاد " ستار خضير " ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، والتي ستقام في السويد نهاية حزيران الجاري.
عطا عباس خضير
الغرب الأسترالي

عرض مقالات: