استغربت أجوبة شقيقي الأصغر حينما سألته عن الاوضاع الحياتية لبعض معارفنا، وكان ذلك عندما التقيته أول مرة أواسط تسعينات القرن المنصرم، بعد فراق بيننا دام عقدا من الزمن أثناء الحقبة الدكتاتورية .. استغربت حين تركزت أجوبته على استعراض عدد أبناء كل من اردت معرفة أحواله. وردا على سؤالي عن سبب كثرة الإنجاب، رد بتلقائية: هذا وحده هو المتاح في ظل الحصار، والمسموح به تحت حكم الدكتاتورية!
تذكرت ذلك وانا اطلع على مشروع قانون جرائم المعلوماتية! حيث لم تُبقِ طغمة الحكم من حقوق الشعب سوى حرية الرأي، ويبدو ان الامر عندها وصل الى محاولة النيل من هذه الحرية ومصادرتها، ومنع المواطن من الوصول الى المعلومة، وهي عودة غير مشرفة الى حقبة الاستبداد والتضييق على أصحاب الرأي.
وقبل تناول عيوب هذا المشروع، لابد من السؤال عن مغزى إعادة طرحه وهو الذي سبق ان رفض شعبيا ونظمت ضده حملات مدنية واسعة، أجبرت مجلس النواب آنذاك على سحبه من جدول الاعمال. وكان ذلك في اعقاب احتجاجات ٢٥ شباط ٢٠١١، حين بدا الهدف من تشريعه جليا، وهو التضييق على المعارضة الشعبية للنهج الطائفي والتسلطي ذي النزعة الاستبدادية.
أما أهم الملاحظات التي تسجل على المشروع فهي وسريعا:
-
من حيث التوقيت: جاء ضمن صفحات الثورة المضادة لإنتفاضة تشرين، وضمن سياق إجراءات تصفيتها التي بدأت يوم ٢٦/١٠/٢٠٢٠، برفع الخيم من ساحة التحرير بواسطة قوة عسكرية مجحفلة.
-
من زاوية صاحب المصلحة في القانون: يأتي طرح المشروع في هذا الوقت ضمن أوليات تمسك طغمة الحكم بالسلطة وبمصالحها، وترسيخ حكم الأقلية المستبدة (الاولغارشية)، التي لا تضمر الا العداء للرأي المعارض.
-
من باب الأولويات: لا موقع له في اطار ما حددته الحكومة بشأن إجراء الانتخابات المكبرة يوم ٦/٦/٢٠٢١. وكان يجب على مجلس النواب ان يركز على تعديل قانون المحكمة الاتحادية، وهو القانون الأهم في المصادقة على الانتخابات، بالإضافة الى أولويات مهمة أخرى تلبي مصالح المواطنين، منها قوانين السكن والضمان الاجتماعي والضمان الصحي وغير ذلك.
-
من جانب الصياغات: جاءت الصياغات مختلة غير واضحة، وعمومية غير محددة وتتحمل التأويل، ومن امثلتها النص على ان هذا او ذاك “يمس” الامن القومي او الاقتصادي للبلد وغير ذلك العديد.
-
من حيث الأسباب الموجبة للقانون، لا يمكن اخفاء المواربة والتدليس والتستر على المضمر، فقد ذُكرت جرائم الإرهاب والاتجار بالبشر والابتزاز للتغطية على جوهر ما يهدف اليه المشروع، فالجرائم المذكورة عالجتها قوانين خاصة بها.
-
من جانب توافقه مع الدستور: ينافي المادة ٣٨ منه، كما ان الأصل هو حرية الرأي وليس تجريم المدافعين عنها، والأساس هو حق الوصول الى المعلومة وليس حجبه، علما ان الأنظمة الديمقراطية تنظم ذلك ولا تجرمه.
أبدا لم تنجح تبريرات طغمة الحكم في إخفاء دوافعها الى تشريع هذا القانون، والتي تصب في تعزيز نزعة الاستبداد، وإستكمال شروط تحولها بشكل كامل الى سلطة حكم الأقلية المستبدة (الاولغارشية)، والمضي قدما في الانحراف عن الديمقراطية وتجاوز قيم حقوق الانسان وضماناتها. وهم إذ ينطلقون من وهم قوتهم، حيث السلطة التي وفرت لهم المال والنفوذ وعززت قبضتهم في الامساك بمفاصلها، يحاولون اليوم تمرير هذا القانون وهم في نشوة نصر، نصرهم الموهوم على إنتفاضة تشرين، التي هزت في اشهرها الأولى أركان نظامهم القائم على المحاصصة والفساد. فهم كما توهموا بتغييب صوت الشعب ومصادرة إرادته، يتوهمون اليوم مرة أخرى.
فالشعب الحي لا يقهر ولا يمكن مصادرة إرادته الحرة.

عرض مقالات: