في روايته (قرن الريح) يقول الكاتب الاوروغياني ادوار دو غاليانو: (توقفت الريحُ عن الهبوب، والأشجار عن التمايل، لم ترتعش ورقة واحدة، وصمتت الطيور، تجمّدت الأشياء كلها، منتظرة تلك اللحظة حين جاءوا وقتلوا مجموعة منّا)، بمعنى أن الكون كله يتوقّف عندما يُقتل إنسان !
هذا ما جعلني أقف مليّاً عند الجرائم التي تُرتكب هنا وهناك، في بلادنا، حيث باتت الجريمة سمةً، بل خبراً يومياً نتداوله في أحاديثنا كل لحظة !
مَنْ سمح للجريمة أن تتغلغل في وسطنا ؟!، بل مَنْ سقى بذور الشرِّ، وأيقظ الشيطان القابع في نفوس البعض ؟! تساؤلات تأخذني يميناً وشمالاً وأنا أقرأ وأشاهد الجرائم التي ترتكب بحقِّ الإنسانية، سواء بالقتل أو التجويع أو الفساد المستشري في كل مكان، لأجدني واقفا عند سؤال حيّرني كثيراً : هذه الكراهية التي انبثقت في نفوسنا مَنْ حفّزها، ومَنْ صنعها ؟! وأعود بذاكرتي حيث الطفولة التي عشتها بين الخضرة والماء في قريتي الغافية عند تخوم البحر بأقصى الجنوب، حيث بكت ذات يوم بحرقةٍ على غريبٍ لم يُعرف من أين جاء، حين وجدوه مضمخا بدمه تحت أحد الجسور، ولم يهنأ لها بال حتى خرجت عن بكرة أبيها لتشييعه ودفنه وإقامة العزاء عليه !
في تلك الأيام لم نعرف معنى الحقد أو الطائفية وما شابهها، وعشنا الحلوة والمرّة معا لم نفترق إلاّ عند اشتعال الحرب المجنونة في ثمانينات القرن المنصرم، وبقينا نحمل المحبة والشوق لبعضنا لحد هذه اللحظة!
ابتدأت بذور الكراهية بالنمو حين بدأ الرقيب الأمني والحزبي يمشي بيننا، وأخذت الحكومات بسقيّها شيئا فشيئا لحاجة في نفس مّنْ يؤثر الكرسي وما يصبّ في جيوبه من أنبوب النفط، من التقارير والوشايات إلى التصفيات الجسدية وكلّها جرائم بشعة يندى لها الجبين في عالم يبحث المرء فيه عن الأمان والمحبة والسعادة!
أعود إلى غاليانو وهو يقول في مكان آخر من الرواية: (كان الرجال الذين يحرقون الصدور بوابور لحام المعادن يرتدون الكتّافيات ويحضرون العشاء الرباني أيام الأحد)، لأجد أننا انغمسنا في الجريمة حدّ الغرق وأخذت الكراهية تمشي في الشرايين، يا للأسف !