لا تشكل الحداثة الثقافية قطيعة مع الأسطورة والسرديات الكبرى، بما فيها المثيولوجيات والملاحم باعتبارها جزءا من موروث الماضي، النظرة العدمية وحدها تؤكد أن القطيعة تتم مع كل ما هو موروث وقديم، حتى يمكن للحداثة أن تنهض بمشروعاتها وأفكارها وأساليبها، بمعزل عن اية صلة مع القديم. وهذه النظرة النيتشوية واحدة من أعمدة مابعد الحداثة، لا شك أننا بحاجة إلى قطيعة مع الموروث، ولكن ليس كل الموروث، القطيعة تتم مع الموروث المُعَطِل للتقدم، الموروث الذي يُجمّد المعرفة في مقولات صيانية ثابتة، ولا يقبل نقدها، هذا هو ما تجب القطيعة المعرفية معه، إن وعي القطيعة نقديًا هو الطريق لفهم الماضي. في حين أن جوانب كثيرة من الموروث ستبقى حية لأي تفاعل لأنها تخضع للرؤية النقدية المعاصرة التي يتعامل بها الأديب مع أفكارها، المثيولوجيات والأساطير والسرديات الشفوية الكبرى "الحكايات الكبرى حسب ليوتار" واحدة من الإرث الإنساني الذي لايُستغنى عنه، إلا أنَّ الطريقة إلى ذلك ليست متاحة للجميع، ولا تحكمها النوايا الحسنة ولا الأفكار المتحجرة، إنَّ ما يجعل الأسطورة حيَّة في الإنتاج الثقافي هي امكانيتها على أن تنفتح على الإستعارة والتأويل، وأن تستوعب العابر والثانوي والهامشي، على أن تكون قابلة للإضافة والتجديد، فطاقة الأسطورة الشعرية تمكنّها من أن تكون مُتَضَمنة في تصورات منتجي الثقافة الحديثة، ليس الأمر منوطًا بالأديب، ولا بطرائق تفكيره ، بل بالأسطورة نفسها، عندما تتكشف بالفعل النقدي عن مكوناتها الداخلية، وتتعرى من اي تقديس قديم يحجمها، وأن تكون جزءا من حكاية اليومي والمألوف، سنجدها عندئذ منفتحة على العصور، هذا من جانب بنيتها الفكرية الشاملة، أما الجوانب الأكثر حرية في الانفتاح، هي لغتها وأسلوبها والخطاب الثقافي الذي توجهه.
كم نحن بحاجة إلى المثيولوجيا؟ وكم لدينا من إنتاجات روائية وشعرية قاربت فنيتها تلك المثيولوجيات والأساطير ولكن بلغة العصر، فالأسطورة يوم ولدت لم يُفكّر بها على أنَّها أسطورة، نحن الذين اعتبرناها أساطير، لأنَّها تمزج بين إلالهي والبشري، وتجعل الكون كله ميدانا لأفعالها.
مهمة الأسطورة ليس أن تكون مصدرًا جامدًا ومتحفيًا ، بل مهمتها أن تجد نفسها في كل إنتاج فيه من الرؤية الكونية ما يدغدغ مشاعرنا، عندئذ تنفتح كأم لتخليق نوى الحداثة، وتطعمها بنسغ الرؤية الكونية. سأذكر ثلاثة نماذج متفرقة من إنتاجنا الأدبي: "أنشودة المطر" للسياب، "سابع أيام الخلق" لعبد الخالق الركابي، "بصرياثا" لمحمد خضير. قراءة متمعنة للنماذج التي أشرت إليها، يجد القارئ أنَّ أمكنتها المحلية مشبعة بالأسطوري والمثيولوجي، وحالما يتعرف المؤلف على أمكنة إنتاجها، يتغلغل في بنيتها العميقة، فالبصرة في "بصرياثا"، أو مقام الولي في "سابع أيام الخلق"، أو الغابة في "أنشودة المطر"، ليست أسماء لأمكنة ، بل هي تكوينات مثيولوجية شاملة، تعمق الصلة بالحاضر حين استثمرت ثيماتها الكونية، فهي تجديد للممارسة الحداثية عبر الحقيقة البطولية المضمرة فيها، فالمرحلة التي كتبت هذه الأعمال، هي مرحلة البحث عن الهوية الجذرية للكتابة التنويرية، مرحلة البحث عن قلق الأمكنة المعرضة للنسيان، قلق الكتابة عن أمكنة يمكن أن تكون دون مرجعية. كانت صدمات الوضع السياسي المتوالية، ومخلفات الانقلابات الدموية، واضطراب الوضع العربي وحروبه وهزيمة العرب مع اسرائيل، فتحت الطريق لما يمكن أن يكون عليه التفكير لتجديد الخطاب الإبداعي، لتصبح الكتابة الحديثة ردة فعل نهضوي ضد هذه الهزائم. وهو المجال الذي يجيد المؤلف العربي فيه الدوران في أعماق التراث لخلق خطاب نهضوي حديث. فعبر استنهاض مثيولوجيا الأمكنة، تتجدد رؤية السياب لغابة النخيل، التي أصبحت هي المشبه، بينما عينا حبيبته هما المشبه به، وهذا عكس البلاغة التقليدية، وأصبح قبر الولي مزارًا ومدونة لتاريخ البلاد، وحاضنة لمخطوطة الرواية/ الحكاية، وأصبحت البصرة وهي من أكثر المدن عرضة للمحو لثمان سنوات. بإمكانات اسطورية .