في حقب التاريخ القديم أمثلة كثيرة لحكام ولأناس عاديين أيضاً، تأثر بهم العديد من الأشخاص المعاصرين، وحاولوا تقليدهم، أو إستنساخ تجاربهم، إيجابية كانت أم سلبية، من باب الأعجاب وتطابق التكوين الشخصي والمعرفي، وكذلك طريقة التفكير. والخطورة هنا عندما يكون المقلِدْ أو المستنسِخْ في موقع المسؤولية، لأن قراره لا يقتصر على ذاته فحسب، وإنما يشمل طائفة واسعة من الناس، إن لم يكن الشعب كله.
أحد هذه الأمثلة أن شخصاً حقيقياً وليس إسطورياً عاش في اليونان قبل الميلاد بعشرات السنين، اسمه "هيروسترات" وكان مهووساً بحب الظهور، والرغبة في تخليد اسمه في التاريخ وإن كان شرا. فقام بحرق أجمل المعابد في أوربا آنذاك، وعندما حوكم وسُئل عن السبب في سلوكه الإجرامي هذا، أجاب أنه يريد أن يخلده التاريخ وتذكره الأجيال القادمة. قيل له : لكن ما قمت به عمل شرير وسوف ترجمك الناس، ولا يذكرك التاريخ إلا بالسوء. رد عليهم بوقاحة، أن الناس ستنسى الحادثة بعد خمس سنين، ولا تتذكر إلا أسمي وحده!
السيد "عادل عبد المهدي" وحكومته العتيدة، لم يكتفوا بقتل المتظاهرين السلميين وعدم تنفيذ المطالب المشروعة للمنتفضين ولعامة الشعب العراقي، سواء ما تعلق منها بمكافحة الفساد أو توفير الخدمات والتهيئة للأنتخابات المبكرة، وتعديل المنظومة الأنتخابية قانوناً ومفوضية، وتشغيل العاطلين عن العمل، أو حصر السلاح بيد الدولة. بل العكس هو الذي حصل، فكان الأنصياع لما تريده الميليشيات ومن يقف وراءها هو السائد، ولم تعد الدولة دولة وفقدت هيبتها كلياَ، فضلاً عن وصول الفساد مالياً وإدارياً الى مديات غير مسبوقة، حتى في الفترة التي تحولت فيها الحكومة الى تصريف الأعمال، حيث إرتكبت مخالفات سياسية ودستورية، مسجلة وصمة عار أخرى في تاريخ السياسة العراقية قديمها وحديثها.
في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية لا تحصل الحكومة على الثقة والشرعية القانونية من خلال الانتخابات فحسب مهما كانت نزيهة وخالية من التزوير، وممثلة لرأي مواطنيها بصدق وموضوعية، وانما يوفرهما بشكل أساسي المنجز السياسي والاقتصادي الذي تحققه الحكومة لشعبها. فأي منجز قدمته الحكومة المستقيلة، وهي التي جاءت على خلفية إنتخابات كانت نسبة المشاركة الشعبية فيها فضيحة بحد ذاتها، وبلغ التزوير فيها حداً ضجت به حتى السماء!
إن هذه الحكومة التي فقدت هاتين الركيزتين (الثقة والمشروعية) مبكراً، أصرت على البقاء بدفع من أولياء أمرها، لعل سيناريوهات إفشال المكلفين المتعاقبين يكتب لها النجاح، وتستمر إلى نهاية الدورة الانتخابية. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سَفَنُها، وسَفَنْ الكتل المتنفذة، لا سيما الفاسدة منها.
والغريب في الأمر، أن حكومة "عبد المهدي" التي يتفق الجميع على إنها الأسوأ في حكومات ما بعد سقوط الصنم، لم تكتف بهذا "اللقب الرفيع" بل أصرت على تتويجه بقرار غاية في "العيب" الوظيفي، وفي آخر يوم من عمرها، هو قطع رواتب المتقاعدين الذين يزيد عددهم على الثلاثة ملايين ممن أفنوا زهرة شبابهم في خدمة العراق والعراقيين، بذريعة الأزمة المالية، دون أن تفكر بحلول عقلانية بديلة.
فهل أن المثال الذي ضربه "هيروسترات" السيء الصيت، كان حاضراً عند إتخاذ هذا القرار الجائر، والمراهنة على أن ذاكرة العراقيين مليئة بالثقوب، وبالتالي سوف ينسون بسرعة قياسية هذه الخطيئة ومعها كل الاساءات المرتكبة؟ أم أن القضية مجرد عداء للشعب العراقي؟!

عرض مقالات: