وأنا أقرأ منشوراً لصديقي الشاعر رياض الغريب، يذكر فيه موقفاً طريفا حدث مع الشاعر موفق محمد قبل إزاحة الستار عن تمثاله الشخصي قبل ايام في مدينة الحلة، ويضيف: قال الأستاذ موفق ضاحكا: منذ يومين وأنا أتفقد إجراءات استكمال العمل وكهربائياته، وقف شابّان أمام التمثال وأخذا يرددان المقطع الشعري المكتوب على قاعدته (أنا أحب الحلة..)، بعدها قال أحدهما: المرحوم كان خوش شاعر. فضحكت في سرّي وقلت أنا المرحوم الخوش شاعر!
وتذكّرت ايضا موقفاً حصل للقاص الكبير الراحل محمود عبد الوهاب حينما أطلقنا اسمه على قاعة الجلسات الأدبية في اتحاد أدباء البصرة، وأقمنا احتفالية بالمناسبة، ودعوناه لقصِّ شريط افتتاحها، حينها نزلت دمعتان ثم اغرورقت عيناه بالدموع وقال: لم أفرح في حياتي أبدا مثلما فرحت هذا اليوم، حين قرأت اسمي يُطلق على قاعة وأنا حي!
هذان الموقفان دليل واضح وملموس على أننا توارثنا ثقافة تكريم المبدعين أمواتا، وبعد رحيلهم عن عالمنا الدنيوي، بمعنى أنهم لن يفرحوا به ابدا ولن يشعروا بسعادة التكريم وزهوه!
لهذا ضحك موفق ونزلت دموع فرح محمود حينما شاهدا تكريمهما بعينيهما، وشعرا بلذّته وهما أحياء!
المبدع حين تذبل كل أزهار شبابه ، ويقضم سني عمره في سبيل أن يقدّم فنّه للناس ، كأن يكون شاعرا أو روائيا أو فنانا أو مبدعا في أي مجال من مجالات الإبداع ، بالتأكيد لم يفكّر يوما بالتكريم من أحد ، فقط يريد العيش بأمن وسلام ورغد بلا منغّصات أبدا . لكن إذا فُتحت نافذة ما وأتيحت فرصة للاحتفاء به وتكريمه فهذا من دواعي سروره طبعا ، لأن كل إنسان على وجه الأرض يحتاج إلى لمسة حنان ولحظة تقدير لكل ما يقدّمه وبشتى الأنواع والأشكال!
كم من مبدعينا فارقوا الحياة وفي قلوبهم غصّات، ونفوسهم مكسورة الخاطر؟!
وكم من مبدعينا قد عانوا ولا يزالون يعانون الأمرّين من الفاقة والعوز والتهميش وعدم الاستقرار بحثا عن مأوى ولقمة عيش؟
وكم من مبدعينا قد أكلتهم الأمراض والتشرد وضيق ذات اليد ؟!
وكم ..؟! وكم ..؟! وما زال الكثير منهم لحد هذه اللحظة يعانون شتى أنواع الأزمات من أمراض وإيجارات وفقر ..الخ !!
ما قام به الأستاذ عادل الكرعاوي، حين تبرّع بإقامة تمثال من البرونز للشاعر الكبير موفق محمد وسط مدينته التي يعشقها ــ الحلّة ــ خطوة ومبادرة تستحق الشكر والتقدير ورفع القبعة له احتراما. ويا ليت جميع الموسرين ورجال الأعمال ومحبي الثقافة يحذون حذوه لتكون هناك محطّات جمال في كل مكان من محافظاتنا، وان يهدوا المبدعين لحظة فرح واحدة في حياتهم!
فحينما ينظر الشاعر أو أي مبدع آخر إلى تمثاله شاخصا في ساحة من ساحات مدينته لتتذكره الأجيال القادمة، يشعر بالزهو حتى وان لم يظهر على سيمائه لحظة إزاحة الستار، لكنني متأكد جدا انه يرقص فرحا في قرارة نفسه!
تكريم المبدع وهو حي خطوة رائعة، ومبادرة أتمنى أن ينتبه لها المسؤولون، بعيدا عن كل الصراعات والمصالح الشخصية والحزبية والطائفية، لأن المناصب تزول، والكراسي تتبدل، ولن يبقى لها من اثر وذكرى سوى لحظة صدق وموقف شهامة وتكريم لمبدع ما، والتاريخ يشهد على بقاء اسماء المبدعين وذكراهم دائما!