هل غابت الوجوه عنا؟، وهل سنسير كأجساد خلت من رؤوسها؟ هذا ما شعرته منذ أن أقفلت باب بيتي الذي لم أغادره منذ شهر ونصف، بسبب وباء صنع خصيصا لزمن يستحقه بجدارة، لأن الموت فيه كألعوبة بيد طفل لا يستكين، والحياة فيه بيد مختل عقليا، لا يهدأ إلا عند كتم الانفاس..

بدأت أتعود سجني - بيتي، وقسمت وقتي أتنقل بين كلمات وهذيان أكتبه لهذا الزمن أو الذي قبله وربما لما هو آت. ثم أجلس أمام شاشة الكومبيوتر فترة، بعدها أنتقل أمام شاشة هاتفي النقال، لاقرأ أخبار وفيات مستعجلة جدا، بعدها ارفع رأسي نحو شاشة التلفزيون حيث يقدم المذيع الذي رتب شعره وكأنه يلبس عمامة من الشعر، فيرسم حزنا كاذبا على وجهه ثم يقرأ خبر موت ملاك الزبيدي التي أحرقت وحررت نفسها من عنف زوجها العسكري الذي أقسم ان يحمي الوطن فقتل زوجته!

أنتقل بعدها الى حديقتي، أراقب نمو هذه الشجرة ونحول وإصفرار الشجرة الأخرى والتي تشبهني ببعض الصفات، فتخفف عني زهرة كاميليا تبرعمت ولم تتفتح بعد.

بين شجيراتي وعبرها، يأتيني صوت جاري وهو يغازل زوجته، بعدما شرب نصف قنينه كحوله ونهاره لم ينتصف بعد، وأعرف جيدا، بعد ساعة وربما أكثر قليلا، سأسمع عراكهما، لأنه يتحول الى انسان آخر عندما يسكر، هذا ما تردده زوجته دائما.

أهرب الى المطبخ وأفرم كل ما أجده أمامي من خضار، هذه عادتي، عندما أشعر بالضجر ابدأ بتقطيع الخضروات او الفواكه، وكانت ابنتي تقول، عندما ترى طاولة المطبخ مليئة بالاشياء المقطعة: (ماما حزينة لو مزعوجة)... تتخدر أصابعي بعد فترة من مسكة السكين، فأغير برنامجي وأصعد الى غرفة المكتبة، أقلب أوراق وصور سنوات مضت، فأبتسم لوحدي أو ابكي بصمت، وبين فقرات هذا البرنامج المزدحم أستمع الى أغاني الزمن الماسي، يسحرني عالم الموسيقى والأغاني، فتبدا روحي بالهدوء ومثل طفل متعب يعود بعد التعب ليرتاح في حضن أمه..

بعد شهر ونصف قررت ان أخالف اوأمر دكتوري وأعبر بوابة بيتي الى عالم البشر، لبست قفازات وقناع ونظارات، لأن الوباء يأتيك من هذه البوابات ومن هذا العالم.

الشارع شبه فارغ، الصمت يسكنه. بشر قليل مروا بي خلال توجهي الى السوق القريب مني، الكل يهرب من الكل ولا يقترب منه، ولأني فرحة بجولتي فقد أبتسمت لكل الاشخاص الذين ألتقيتهم، أبتسمت بمحبة طاغية، فرحة لأنهم مازالوا أحياء مثلي، وفوجئت بأنهم لم يبادلوني الأبتسامة، أو حتى بإيماءة أدب على الأقل، فسّرت ذلك لأن شكلي عربي أو بالنسبة لهم باكستاني او هندي أو..أو.. وبالتالي ربما يعتقدون إننا حملة كل أنواع الفيروسات، وبالتأكيد هذا الوباء (كورونا).. شعرت بالحزن وقررت أن أشتري حاجياتي وأعود بسرعة الى بيتي...

هل صار البشر يخافون بعضهم لهذه الدرجة.. وهل لأن الموت هو الشيء الأكثر قربا لنا مع أن كل ما حولنا ينبض بالحياة؟

في طريق عودتي، صادفت سيدتين أبتسمت لهما ايضا لكني لم أستلم الرد.

وصلت بيتي يتلبسني شعور بالندم أني عبرت بوابة بيتي الى عالم البشر، وعندما فتحت الباب وخلعت القفازات أنعكس وجهي على المرآة في المدخل، رأيت غياب وجهي الذي تغطى ثلاثة أرباعه بالكمامة وتغطت عيوني بالنظارات، فكيف يبتسم لي الناس وكل وجهي غائب عنهم...

ترى لو غابت وجوهنا هل سيكون هناك حب في عالمنا؟!

ولو استمر هذا الوباء لفترة طويلة، هل سننسى الابتسامة، وهل سنصاب بوباء الكراهية؟

عرض مقالات: