كثيرة جداً هي التصريحات والتغريدات والوعود التي يطلقها المسؤولون بمناسبة وبدونها، في العديد من بلدان العالم، وفي طليعتها عراقنا المختطف. لكن اغلبها يأتي تطبيقها العملي معكوساً تماماً، وهو ما يصطلح على تسميته في الادب السياسي بـ "الديماغوجيا" والهدف منه الخداع وتزييف الوعي وزرع الاوهام في نفوس مستمعيهم وقرائهم، فضلاً عن إستخدامه كبالونات اعلامية لأختبار ردود الفعل، أو رغبة في تبييض الوجوه الكالحة وغير المرحب بها.
أما التغريدات فحدث عنها ولا حرج، ومواقع التواصل الاجتماعي على كثرتها تعج بها، بل هي متخمة، والكل يعتقد أنه عبقري زمانه، وأن الجماهير الغفيرة تنتظر بفارغ الصبر ما سوف يتحدث به أو يكتبه، وإن كان يغترفه من مستنقع الإسفاف أو التفاهة.
وهناك من يعترض حتى على تسميتها بـ "التغريدات" لأن التغريد جميل ويطرب من يسمعه إن كان صاحب ذوق، وهو صوت البلابل، تلك الطيور الصغيرة التي لا يملّ المرء من الاستماع والنظر إليها، ولهذا يقترح أحد الظرفاء تسمية البعض من هذه التغريدات بـ"التنهيقات"، فهو يرى في تسميتها الحالية ظلم كبير.
في الأسبوع الماضي ضجت وسائل الاعلام بما صرح به "بومبيو" وزير الخارجية الأمريكي، ودعوته للقوى السياسية العراقية والكتل المتنفذة "بالتخلي عن المحاصصة الطائفية والأثنية، وتشكيل حكومة قوية تستطيع خدمة الشعب العراقي، لأنه يستحق الأفضل مما جرى لحد الآن" متناسياً ان دولته ومن خلال "بول بريمر" هي التي جاءت بالمحاصصة لضمان تفتيت الوحدة الوطنية وشرذمة القوى السياسية العراقية، وإشاعة الفساد المالي والإداري في الدولة والمجتمع، وصولاً الى الهيمنة الكاملة على مقدرات الشعب العراقي.
ومما ساعد "بريمر" وسهل مهمته، ذلك الحماس والترحاب اللذان قوبلت بهما تلك الدعوة المضللة (المحاصصة) من عدد غير قليل من أحزاب وقوى المعارضة العراقية. وفي كتابه الموسوم "قضيت سنة في العراق" يذكر حادثتين مؤلمتين وطريفتين في اَن، استنتج من خلالهما أن هذه الأحزاب والقوى سوف تكون عوناً له في مشروعه التدميري.
الأولى "حسب تعبيره" أنه كان متخوفاً ومتوتراً في لقائه الاول مع المعارضة العراقية لأنه كان يتوقع أنهم سوف يطالبونه برحيل القوات الأمريكية المحتلة سريعاً، لكي يتفرغوا لبناء وطنهم وإقامة النظام الديمقراطي الذي يحلم به العراقيون. لكنه فوجيء بأنهم طرحوا عليه أولا قضية رواتبهم ومخصصاتهم، فما كان منه ألا أن أخذ نفساً عميقاً، وأراح ظهره على الكرسي الجالس عليه.
وفي لقاء آخر يذكر أن إثنين من أبرز قادة "المعارضة العراقية" أحدهما صار رئيساً للوزراء اَنئذٍ، كانا يتسابقان ويتزاحمان على تقديم "الموطا" إليه!
لم يخيب هؤلاء الساسة أمل "بريمر" فيهم بأعتماد مبدأ المحاصصة وتقاسم الغنائم طيلة السبع عشرة سنة الماضية، ومازالوا يتفننون فيها، رغم أطنان الأدعاءات الكاذبة بذمها والتخلي عنها، لكنهم أثبتوا بالملموس أنهم لن يتخلوا عنها مهما طال الزمن، فهم يدركون جيداً أن تخليهم عنها، كمن يقطع عنه الأوكسجين في غرفة الإنعاش. ومن هنا يأتي حرصهم الشديد على ديمومتها، للاستمرار في نهب خيرات العراق، وحرمان الشعب منها ومن أبسط حقوقه. ولهذا السبب تحديداً إستخدموا الرصاص الحي والأسلحة المحرمة دولياً ضد الأنتفاضة البطولية، فضلاً عن عمليات الأختطاف والأغتيالات والأعتقالات العشوائية، ليس من أجهزة القمع فحسب، بل الكثير منها من قبل قوى ومجاميع خارجة على القانون، ومرّغت هيبة الدولة في الوحل، بحيث أصبح مفهوم الدولة الحديثة لا ينطبق على ما يجري في العراق.
لا حلّ إلا بتجديد الانتفاضة، واستكمال مشروعها السياسي والجماهيري، للوصول الى نهاياتها الظافرة بإقامة الدولة المدنية الديمقراطية، والشروع بتطبيق العدالة الإجتماعية.

عرض مقالات: