يذكر الرحّالة الفرنسي (فولني) في كتاباته قصةً عن والي دمشق أسعد باشا العظم، عندما كان بحاجة إلى المال لتدبير شؤون الولاية اقتصاديا، وسأل المحيطين به من مستشارين ومعاونين، اقترحوا عليه أن يفرض ضريبة على المسيحيين وصنّاع النسيج في دمشق. سألهم: كم سيبلغ المال الذي سيجمعه منهم وهم محدودو الغنى وأيديهم لا تستطيع دفع غير القدر القليل؟ أجابوه: ستحصل منهم على 50 أو 60 كيساً، قال: وكيف سيجمعونها ؟ أجابوه: يبيعون حلي وجواهر نسائهم!
لم يأخذ بمشورتهم ، بل أرسل على المفتي وقال له : وصلني عنك كلام بأنك تفعل المحرمات وتشرب الخمور بالخفاء. أنكر المفتي ذلك ، لكن الوالي أصرّ على كلامه وقال له : سنحاسبك اشد حساب إلاّ إذا أعطيتنا نصف ما تملك. وافق المفتي.
وفعل الوالي الشيء نفسه مع القاضي والمحتسب وكبير العسكر والنقيب وشيخ التجار وكبار الأغنياء من المسلمين والنصارى ، فجمع مالاً كثيراً غطى ضائقته المالية وفاض. أرسل على مستشاريه وقال لهم : هل سمعتم بأنني أصدرت قرارا يقضي بفرض ضريبة كما أشرتم عليّ؟ قالوا : لا ، فقال لهم : لكنني جمعت ما سدّ الضائقة المالية وفاض عنها دون أي خلخلة أو زعزعة لاستقرار وأمن المواطنين اقتصاديا ومعيشيا، ذلك أن ( جزّ صوف الكباش خير من سلخ جلود الحملان )!
استذكرت هذه الحكاية وأنا اسمع وأقرأ عن الأزمة الاقتصادية التي يقال أنها ستحلّ بالبلاد، وسعي المسؤولين في وطننا إلى إصدار قرار يقضي باستقطاع (35 في المائة) من رواتب الموظفين!
حقيقة يصاب المرء بالإحباط والقنوط من هؤلاء الذين لم يفكّروا أبداً في إيجاد حلٍ لكل الأزمات سوى اختلاق أزمات أخرى ،فبدلا من محاسبة الفاسدين ، وإعادة الأموال المنهوبة يسعون إلى سلخ جلد المواطن المسكين ، بل تضييق الخناق عليه أكثر من ما هو عليه الآن. وإلاّ هل يعقل ان بلداً انقشعت عنه غيمة الدكتاتورية السوداء وما جلبته من حروب ودمار وفقر وتشريد وموت ، لتجثم عليه غيمة الفساد والمحاصصة المقيتة التي أخذت تشرعن للفساد ، وتودي بالبلاد والعباد إلى الخراب والموت المجاني ، حيث ساءت الخدمات وتدهورت التربية والتعليم وأصيب المواطن بالإحباط من الإصلاح الذي بات حلماً!
نهض الشباب منتفضين وقدّموا خيرة اخوتهم على مذبح انتشال البلاد مما هي فيه ، مثلما هبّ الشباب أنفسهم مدافعين عن الأرض والعرض حين دنّسها أبشع المخلوقات ، وقدّموا الضحايا والقرابين فداءً للوطن ، الذي لم يفكّر مسؤول واحد به أبدا !
اليوم وفي خضمّ محاربة وباء قاتل، رغم ضعف وقلة الإمكانيات الوقائية والعلاجية، نجد هناك تعرضات وهجمات تشنها عصابات داعش الإرهابي على مناطق من محافظاتنا العزيزة، مستثمرين انشغال السياسيين بصراعاتهم على المناصب والمكاسب بعيداً عن بناء الوطن، وهلع الناس وانشغالهم بكيفية الخلاص من وباء كورونا. وهذا دليل واضح على سوء التدبير وعلى التخطيط الفاشل في كل شيء، وإلاّ كيف يتعرض الإرهابيون لأبنائنا المقاتلين بعد أن هزموا شرّ هزيمة وقلتم انتهينا منهم ورميناهم خارج الحدود والحياة ؟؟!
على كل مسؤول أن يتأمل مسيرته خلال هذه السنوات وبروحية العراقي الحقيقي، وبضمير ينبض بالإنسانية، ويعيد حساباته من أولها إلى هذه اللحظة، ليبصر بعين ثاقبة ماذا قدّم للناس والوطن ؟!
وكيف سيحلّ هذه الأزمات، ويبني بلادا كان الكل يحلم بها شمسا تنير ظلمات الدنيا، لا أرضاً منهوبة وشعبا يرزح تحت الخراب والموت نتيجة عدم التخطيط الصحيح وسوء التدبير، فيما البعض يمسك بالدفِّ يغنّي ويجمع المال لنفسه تاركا البلاد والعباد في مهبِّ الريح!