دعت أصوات من المنتفضين وما زالت تدعو الى اعتماد الدوائر الانتخابية الصغيرة، فتجاوب معها سريعا عدد من الكتل السياسية التي سبق ان قالت بذلك وتبنته. لكن منطلق المنتفضين يختلف تماما عن منطلق هذه القوى، وان التقيا في ما يعلنان.
فبعض القوى السياسية تقول صراحة انها لا يهمها ما اذا كان الامر يتعلق بدوائر انتخابية صغيرة او بقوائم انتخابية. وسبب ثقتها العالية هذه بالنفس يعود الى ما يتوفر لها من إمكانات وقدرات لوجستية ومالية، ومن نفوذ راكمته بطرق مختلفة، وحتى امتلاك بعضها للسلاح وهو ما يخالف نصوصا دستورية واضحة وصريحة، اضافة الى قانون الأحزاب السياسية الذي حرم على الأحزاب المجازة بموجبه امتلاك السلاح. لكن الواقع مختلف تماما كما يعرف القائمون على تطبيق القانون والسلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فالمنتفضون المطالبون بالدوائر الصغيرة يعتقدون انها سوف تضعف هيمنة الأحزاب المتنفذة وقوى المحاصصة والفساد، وستفسح للأفراد مجالا أوسع في الترشيح وتعزز قدرتهم على المنافسة. غير ان واقع حال الدول التي تتبنى اليوم طريقة الانتخاب هذه لا يشي بذلك. فالمسرح السياسي فيها يهيمن عليه عدد محدود من الأحزاب، ويكاد يكون معظم المترشحين فيها أعضاء في أحزاب ترشحهم هي وتدعمهم ماليا ولوجستيا للمنافسة في الدوائر الانتخابية الصغيرة .
وتحفل هذه الدوائر بالحيف والظلم وبضياع الأصوات، نظرا الى عدم تجانسها من حيث الكثافة السكانية. ففي بعضها يكون ثمن المقعد باهظا جدا، وفِي الأخرى لا يتعدى الآلاف وحتى المئات من الأصوات. والمثال على ذلك بريطانيا وما حصل في انتخاباتها البرلمانية الأخيرة.
ويحصل هذا في دول مستقرة ذات ممارسة ديمقراطية راسخة والتنافس فيها يدور اساساً على برامج وقضايا داخلية وخارجية معلنة ومعروفة للناخب. ومن المؤكد ان نتائجها السلبية ستكون اشد جسامة في بلدان مثل بلدنا، حيث تتحكم في السلوك الانتخابي اعتبارات متنوعة مناطقية وعشائرية وطائفية وقومية، وحيث لأصحاب المال والسلاح سطوة لا شك فيها.
ووفقا لهذه الاعتبارات يجدر ان نتصور المشهد القادم، حيث الانقسام الحاد والصراع على النفوذ والتنافس والتدافع والتقاتل. والمتوقع في ظروفنا الراهنة ان تكرس حالة المحاصصة والفساد وشراء الذمم بأبشع صورها، الى جانب هيمنة النزعات الطائفية والعشائرية والمناطقية، ما يدفع مبدأ المواطنة خطوات أخرى الى الوراء.
وهذا بالذات ما يتقاطع مع شعار المنتفضين "نريد وطنا". فعبر الدوائر الصغيرة ستكرس العناوين الفرعية وتكون لها الأولوية والصدارة على حساب الوطن الواحد.
ولا شك ان مدى سوء اعتماد الدوائر الصغيرة وضرره يختلف من بلد الى آخر ووفقا للظروف الملموسة، مع الإقرار بانه لا يخلو من اعتبارات ايجابية، مثل مسؤولية المرشح امام الناخبين مباشرة، لكن هذا يضيع وسط سلبيات وثغرات عديدة. ومن هنا ضرورة وأهمية دراسة أوضاع كل بلد بشكل متأنٍ وحريص، لا من أجل تجاوز أزمة قائمة وانما لتبني ما يؤسس لحياة سياسية مستقرة وتداول سلمي ديمقراطي سلس للسلطة، وما يؤدي حقا وفعلا الى حفظ التعدد والتنوع في مجتمعنا، وإتاحة فرصة فعلية لأوسع تمثيل وكسر احتكاره تحت عناوين ومداخل مختلفة.
ان رفض الحال السيء الراهن، والسخط الواسع على دور وأداء أحزاب المحاصصة والفساد ومسؤوليتها المباشرة والأساسية عما آل اليه وضع بلادنا اليوم، ان هذا كله لا يبرر الاندفاع نحو تبني حلول تبدو جذابة، خاصة وإنها مجربة ونتائجها معروفة مسبقا. بل يتوجب ان يقترن الرفض بالبحث الجاد والمسؤول عن حلول ناجعة، تخرج البلاد حقا من الازمة وتفكك اسبابها وتعالج جوهرها، ولا تعيد إنتاج او تدوير عواملها وشخوصها!
ان الدماء الزكية للمئات من شهداء المنتفضين وتضحيات الآلاف غيرهم ودعم الملايين من المواطنين، يجب الا تذهب هدرا وتضيع وسط حالة من الاندفاع غير المتأني والحماس المفرط وبعض المواقف العدمية المؤذية. فالمطلوب كان ويظل حلولا ومقترحات واقعية وطنية الهوى والتوجه، تقود نحو عراق آخر مختلف يستحقه شعبنا الصابر والمضحي.
وإنه الوقت المناسب لفرض إرادة المنتفضين والشعب، ودحر منظومة المحاصصة والفساد ورموزها.

عرض مقالات: