الحكيم لغوياً هو الذي يحكم عقله في كل شيء صغيراً كان أم كبيراً، وينحاز إلى العقل دون أن تأخذه لومة لائم. في الريف والمناطق الشعبية تطلق عليه تسمية (العارفة) أي العارف ببواطن الأمور، والقادر على الحكم المنصف فيها، وبما يرضي ضميره، ويعيد الحق إلى نصابه، ولهذا تراه يحظى بالاحترام والتقدير، وتحف به مظاهر التبجيل أينما حل أو ارتحل. في السياسة تكون أهمية القابض على جمر الحكمة مضاعفة، لأنه يتصدى للفصل في قضايا عامة، تهم ملايين الناس، خصوصاً إذا كان من صناع القرار السياسي، أو المساهمين فيه، الأمر الذي يجنب البلاد الكثير من الصعوبات والويلات، ويحفظ لأبنائها حقوقهم ومصالحهم.

 بيد أن الحكمة لا تأتي جزافاً، ولا تُشترى، فلها شروطها وأولها النزاهة وعفة اليد واللسان، والضمير المعافى، والعقل المتقد ذكاء، المتماهي مع الحق والعدالة، والرافض لكل ألوان الدجل والكذب والنفاق، ولابد أن تكون البيئة التي ينمو وينضج فيها نظيفة، مترعة بالمعرفة العميقة بشؤون المجتمع، وبالكفاءة والوطنية.

ما يحصل في عراقنا اليوم بعيد كل البعد عن هذا المدار سياسياً واجتماعيا، وإلا لما كانت حصيلتنا بائسة، إلى الحد الذي عادت فيه المحاصصة القاتلة من جديد، لتعتلي خيول الكتل المتنفذة، وتجوب بها ساحة السباق من أقصاها إلى أقصاها.

لقد استبشر العراقيون خيراً. بما حسبوه نهجاً جديداً، رغم التزوير في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وأطنان الوعود المصقولة بزيت الرياء والنفاق، والمال الحرام المنثور بسخاء لا حباً بالناس، وإنما أملاً في استرداد أضعافه عشرات المرات بعد أن يتبوأوا أماكنهم غير المناسبة في الدولة العراقية.

لكن هذه الوعود والحذلقات الكلامية التي رافقتها، ذهبت أدراج الرياح. بمجرد أن تصاعدت الدعوات إلى الإصلاح والتغيير، مقرونة بخطوات عملية، وتخويل السيد رئيس الوزراء صلاحية اختيار الأكفأ والأنزه، والقادر على النهوض بمسؤوليته بجدارة، لتحقيق إنجازات طال انتظارها، وابيضّت العيون من كثرة التحديق فيها.

فلا الوزارة اكتملت، ولا رئيس الوزراء حسم الأمر، ورفض الانصياع لما يريده المتنفذون المتحاصصون، ولا مجلس النواب استطاع أن ينهض بعمله، ويشرع قوانين تلامس مصالح العراقيين، وتعيد إليهم شيئاً من الأمل المفقود في بحور الغش والخداع، مكتفياً بمناقشات وجدالات عقيمة، أشبه ما تكون بحوار الطرشان. وظل الكل متشبثاً بموقفه، حريصاً على تلبية مطالبه، وإن كانت تتقاطع مع الجميع، بل حتى اللجان البرلمانية لم يكتمل تشكيلها، بانتظار سيف المحاصصة، لتقسيم الكعكة حسب الحجوم وسعة النفوذ.

ومن الطبيعي أن تظل الأمور على حالها، وبعضها تدهور بشكل ملفت، سواء ما تعلق منها بالخدمات الضرورية لبني البشر، أو مكافحة الفساد والبطالة والمخدرات، أو التصدي لخلايا داعش النائمة والقضاء عليها، وحصر السلاح بيد الدولة، الذي تحول إلى ما يشبه النكتة، لأنه لم يعد مقتصراً على الميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، فالعشائر بدورها أخذت تتقاتل بالأسلحة الثقيلة والطائرات المسيرة..ألخ.

فمتى يحلق طائر الحكمة في سماء حياتنا السياسية، ويجعلنا قادرين على بناء دولة تليق بشعبنا وبتضحياته الكبرى؟

عرض مقالات: