بعد القرار البريطاني بتنصيب الملك الحجازي على العراق عام ١٩٢١، أصبح البلد بحاجة الى مستلزمات تأسيس الدولة، ومنها النشيد الوطني. فأعلن البلاط عن مسابقة فاز فيها الميجر الانكليزي (ج. ر. موري) لتصبح مشاركته الموسيقية سلاماً ملكياً وعُزف لأول مرة عام ١٩٢٤ من قبل جوق الحرس الملكي في البلاط ومجلس الأمة ومقر وزارة الدفاع، وفيما بعد كتب أحد الشعراء المتملقين نصّاً لم يُعتمد رسميا ولكنه غالباً ما كان ينشد مع السلام:
دُم يا شريف الحسب .. يا كريم النسب
يا خير ملك في الوجود.. فيصل
أنت نبراس لنا .. دُم لتحقيق المُنى
وارجع لنا عهد الجدود.. فيصل
وبعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ وتغيير النظام السياسي، صار لزاما تغيير ملامح النشيد الرئيسة، اذ لا يمكن أن يكون رمز واحد لنظامين متناقضين. فأطلقت الثورة الفتية مسابقة فاز فيها الموسيقي العراقي لويس زنبقة وكان وقتها يكمل دراسته الموسيقية العليا في فيينا. وكانت مشاركته أيضا بموسيقى لوحدها دون شعر أو كلمات، كما كانت من نمط مارش المسيرات، وسميت السلام الجمهوري.
وبعد ٨ شباط عام ١٩٦٣، وبحقد أسود لجأ الانقلابيون الى تبديل السلام الجمهوري بنشيد (والله زمان يا سلاحي) وهو نشيد مصري من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل وكانت السيدة أم كلثوم قد غنته إبان العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦.
واستمر الحال الى أن تسنم صدام دفة الحكم بحركة بهلوانية عام ١٩٧٩، فوقع اختياره على قصيدة لوزيره شفيق الكمالي. وطرحت القصيدة لمسابقة لحنية وانحصرت المنافسة بين مؤلفين موسيقيين عراقيين اثنين هما عبد السلام جميل فرنسو وعبد الرزاق العزاوي. ولكن بلعبة خفية وبإهانة سلطوية مقصودة لكل فناني العراق آنذاك تم تكليف الموسيقي اللبناني وليد غلمية بتلحين النشيد الجديد. فكان لصدام ما أراد وبدأت الحروب والمآسي مع ترديد النشيد الوطني الجديد الذي هو عبارة عن نشيد مدرسي بسيط:
وطنٌ مدّ على الأفق جناحا.. وارتدى مجد الحضارات وشاحا
بوركت أرض الفراتين وطن.. عبقريّ المجد عزماً وسماحا
وسقط النظام وطار النشيد وصار بريمر حاكما للعراق. وفي مرة حضر حفلا في قاعة الرباط بشارع المغرب فإذا بالفرقة الموسيقية وبمبادرة ذكية منها تبدأ الحفل بعزف نشيد (موطني) الذي ألفه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان عام ١٩٣٦ ولحنه "الأخوين فليفل".
وهنا نرى أنه منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة كان نشيدنا انكليزيا ثم صار مصريا فلبنانيا ففلسطينيا الا في عهد الزعيم فقد كان عراقياً خالصاً ١٠٠في المائة.
وفي يوم الخميس ١٢ تموز ٢٠١٢ صوّت مجلس النواب مبدئيا على مقصورة الجواهري الأخاذة لتكون نشيدا وطنيا، ولكن مرّت الأيام ودارت الأيام وبقيت أسطوانة النشيد الوطني متوقفة لا تدور!
والآن ثمة مساع غير حميدة لاعتماد طقطوقة (سلام عليك) لتكون رمزا سياديا للعراق الجديد في حين ان حبشكلات التلاميذ في السفرات المدرسية أرقى منها كلاما ناهيك عن اللحن المُحوّر، ورحم الله فناننا حافظ الدروبي.
أذكر أن الموسيقار منذر جميل حافظ وهو من مؤسسي الفرقة السمفونية قد حدثني قبل سنوات في بيت شقيقته الرائدة سافرة جميل حافظ، بأن نسيبه الفنان حافظ الدروبي ترأس عام ١٩٣٦ وفد العراق الى مهرجان الكشافة العالمي في برلين. وفي مراسيم الافتتاح كانت الوفود بملابسها البيض تسير على وقع المارشات، وكان كل فريق يقف برهة أمام المنصة لترديد النشيد الوطني للبلد المشارك وهكذا كانت الوفود تسير تباعا. هنا انتبه الفنان الدروبي الى أن العراق بلا نشيد فتدارك الأمر بسرعة وطلب من طلبته الكشافة أن يرددوا بصوت عال كلمة " بلي " بعد ما ينشده هو قبلهم، ووقف الفريق العراقي أمام المنصة التي يقف فيها الفوهرر هتلر وهو يحيي الفريق بيده الممدودة، فأنشد الدروبي:
- بلي يا بلبول..
ليهتف خلفه الفريق بصياح مدوّ:
- بلي
وأكمل الدروبي النشيد اللا مدرسي:
- ما شفت عصفور.... بلي
- ينكر بالطاسة........ بلي
- حليب وياسة ....... بلي
والطريف أن الجمهور الألماني الهائل الذي اكتظت به المدرجات أخذ يردد أيضاً: بلي..
بل ان هتلر بجبروته بدأ يردد أيضا وبقوة:
- بلي..

عرض مقالات: